الصلاة والسكينة

الصلاة والسكينة الدكتور محمد راتب النابلسي
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
من ذكره الله منحه السعادة والتفاؤل والسكينة
أيها الأخوة الكرام ، ننطلق في هذه الخطبة من قوله تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
( سورة العنكبوت الآية : 45)
أولاً : تنهى نهياً ذاتياً ، هذا هو الوازع الذي هو أصل في الدين ، أما الرادع هو منع خارجي :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
بعض العلماء قالوا : ذكر الله أكبر ما فيها ، لكن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول : "ذكر الله لك وأنت تصلي أكبر من ذكرك له ، لأنك إن ذكرته أديت واجب العبودية ، لكنه إذا ذكرك منحك الأمن ":
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 81-82 )
منحك التوفيق ، منحك السعادة ، منحك التفاؤل ، منحك قوة الشخصية ، منحك رؤية سديدة ، ألقى في قلبك النور .
السكينة ثمرة من ثمار الصلاة
من جملة هذه المنح موضوع الخطبة اليوم ، إذا ذكرك الله وأنت في الصلاة منحك السكينة ، ما السكينة ؟ لقد وردت في القرآن الكريم في عدة آيات من أبرز هذه الآيات :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
( سورة الفتح الآية : 4)
وقال تعالى :
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾
( سورة الفتح الآية : 18)
موضوع الخطبة اليوم إحدى ثمار الصلاة السكينة ، لا سعادة بلا سكينة ، ولا سكينة بلا إيمان .
السكينة هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة و تزهر بغير عون من المال :
السكينة هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة ، هذه السكينة تزهر بغير عون من المال، قد تكون فقيراً ويمنحك الله السكينة فتسعد بها ولو فَقَدَ كلَّ شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملَك كل شيء ، لا تحتاج إلى الصحة ، قد يكون المرء مريضاً وقد ألقى الله في قلبه السكينة .
أيها الأخوة الكرام ، هذه السكينة ليست مِلْكَ أحد ، فيمسكَها أو يرسلَها ، ولكنها في متناول كل واحد من البشر إذَا هو دفع ثمنها .
عظمة هذا الدين دين البشر ، دين أي إنسان ، بالدين لا يوجد طبقية ، بالدين لا يوجد فئة مختارة ، لا يوجد فئة متميزة ، هذه السكينة لكل البشر ، بشرط أن تدفع ثمنها ، ما مِن نعمة تُحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة ، المال نعمة إذا حجبت مع المال السكينة أصبح المال نقمة ، وما من محنة تحفها السكينة إلا وتكون هي بذاتها نعمة ، ينام الإنسان على الشوك مع السكينة فإذا هو مهاد وثير ، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هو شوك القتاد .
يعالج المرء أعسر الأمور ومعه السكينة فإذا هي هوادة ويسر ، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه السكينة فإذا هي مشقَّة وعسر ، يخوض المخاوف والأخطار ومعه السكينة فإذا هي أمنٌ وسلام ، ويعبر المناهج والسبل وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هي مهلكةٌ وبوار .
هذه السكينة لا تعز على طالب كائناً من كان في أي زمان ومكان ، وفي أي حال ومآل ، وجدها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام في النار ، وجدها يوسفُ عليه الصلاة والسلام في الجُبِّ ، كما وجدها في السجن ، وجدها يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ، وجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم ، وهو طفلٌ مجرد من كل قوة وحراسة ، وجدها أصحاب الكهف في الكهف ، حينما افتقدوها في الدور والقصور ، ووجدها نبينا عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار، والأعداء يتعقبونه ، ويَقُصُّون الآثار ، ويجدها كل مؤمنٍ أوى إلي ربه يائساً ممن سواه ، قاصداً بابه وحده من دون كل الأبواب .
سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة :
يبسط الله الرزق مع السكينة ، فإذا هو متاع طيبٌ ، ورخاء وفير ، وإذا هو رغد في الدنيا ، وزادٌ إلى الآخرة ، ويمسك السكينة مع الرزق ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط واستهتار .
يمنح الله الذرية مع السكينة فإذا هي زينة الحياة الدنيا ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح ، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاءٌ ، ونكدٌ ، وعنتٌ، وشقاءٌ ، وسهرٌ بالليل، وتعب بالنهار .
يهب الله الصحة والعافية مع السكينة فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، ويمسك سكينته فإذا الصحة والعافية بلاءٌ يسلطه الله على الصحيح المعافى فينفق الصحة والعافية فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويزخر السوء إلى يوم الحساب .
ويعطي الله الجاه والقوة مع السكينة فإذا هي أداة إصلاحٍ ، ومصدر أمنٍ ، ووسيلةٌ لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر ، ويمسك سكينته فإذا الجاه والقوة مصدرا قلق على فوته ، ومصدرا طغيان وبغيٍ ، ومصدرا حقدٍ وكراهية ، لا يقر لصاحبها قرار ، ويدخر بها للآخرة رصيداً ضخماً من النار .
سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة ، ولكن كيف السبيل إليها إذا كانت شيئاً لا يثمره الذكاء ، ولا العلم ، ولا الصحة ، ولا القوة ، ولا المال والغنى ، ولا الشهرة والجاه ، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية ؟
الإيمان بالله واليوم الآخر مصدر السكينة الوحيد
إن للسكينة مصدراً واحداً لا ثاني له ؛ إنه الإيمان بالله واليوم الآخر ، الإيمان الصادق العميق الذي لا يكدره شك ولا يفسده نفاق ، والعمل بمقتضى هذا الإيمان ، هذا ما يشهد به الواقع الماثل ، وما يؤيده التاريخ الحافل ، وما يلمسه كل إنسان بصير منصف في نفسه ، وفيمَن حوله .
لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً ، وضيقاً ، واضطراباً ، وشعوراً بالتفاهة والضياع ، هم المحرومون من نعمة الإيمان وبرد اليقين .
إن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق ، وإن حفلت باللذائذ والمرفهات ، إنهم لا يدركون لها معنى ، ولا يعرفون لها هدفاً ، سمعت قصة عن أحد أكبر خمسة مهندسين في العالم ، صمم جسر استنبول الأول الذي تعبره ثلاثمئة ألف سيارة في اليوم ، في أثناء افتتاح الجسر ألقى المهندس المصمم بنفسه في البوسفور ، ونزل ميتاً ، ذهبوا إلى غرفته في الفندق ، كتب ورقة قال فيها : قد ذقت كل شيء في الحياة فلم أجد لها طعماً فأردت أن أذوق طعم الموت .
أيها الأخوة ، هذه قصة معبرة ، إنسان بلا هدف حياته تافهة ولو كان غنياً ، ولو كان قوياً ، ولو كان صحيحاً ، ولو كان وسيماً ، ولو كان ذكياً ، إنسان بلا إيمان حياته تافهة ، حياته متناقصة ، أبى الله جل جلاله أن يسمح للدنيا أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة بل متناقصة.
السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان ومن ثمار التوحيد :
أيها الأخوة ، إن هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان ، ومن ثمار التوحيد التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، هي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض ، ليثبتوا إذا اضطرب الناس ، وليرضوا إذا سخط الناس ، وليوقنوا إذا شكّ الناس ، وليصبروا إذا جزع الناس ، وليحلُموا إذا طاش الناس ، لأنك مؤمن متصل بالله تتمتع بميزات لا يعلمها إلا الله ، ميزات نفسية ، واثق من رضاء الله ، واثق من محبة الله لك ، واثق من أن هذه الدنيا لو أنها تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، واثق بأن الله وعدك بجنة عرضها السماوات والأرض :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
( سورة القصص الآية : 61 )
السكينة نور من الله وروح منه :
أيها الأخوة ، هذه السكينة نور من الله وروح منه ، يسكن إليها الخائف ، ويطمئن عندها القلِق ، ويتسلى بها الحزين ، ويستروح بها المتعب ، ويقوى بها الضعيف ، ويهتدي به الحيران ، هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده ، منها تهب عليهم نسماتها ، وتشرق عليهم أنوارها ، ويفوح شذاها وعطرها ، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير ، ويريهم نموذجاً لما ينتظرهم من نعيم ، في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة ، إنها جنة القرب من الله ، ومع القرب السكينة ، ماذا يفعل أعدائي بي ؟ قال أحد العلماء : بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ قال تعالى:
أين وجد سيدنا إبراهيم الجنة وقد ألقي في النار ؟
﴿ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
( سورة محمد الآية : 6)
عرفها لهم يوم كانوا في الدنيا ، ينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان ، والأمن والإيمان .
أسباب السكينة لدى المؤمن :
1ـ المؤمن هدي إلى فطرته التي فطره الله عليها :
أيها الأخوة الكرام ، أسباب السكينة لدى المؤمن ، أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه هدي إلى فطرته التي فطره الله عليها ، هي فطرة متسقة ، ومنسجمة ، ومتجاوبة مع فطرة الوجود الكبير كله، فعاش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام لا في حرب وخصام ، ومع من حوله في شفافية ومشاركة لا في وحشة وعداوة ، تفاصيل المنهج الإلهي ينطبق على تفاصيل الفطرة ، أنت حينما تصطلح مع الله تصطلح مع فطرتك ، إن في القلب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله ، غني عنده فراغ ، قوي عنده فراغ ، ذكي عنده فراغ ، وسيم عنده فراغ، في القلب فراغ لا يملأه إلا الإيمان بالله والاتصال به ، إن في القلب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله ، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه ، وفي القلب نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه ، وقضائه وقدره ، والصبر على ذلك إلى يوم لقائه ، وفي القلب فاقة لا تسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له .
وتظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله ، وتؤمن به وتتوجه إليه ، عندها تستريح من تعب ، وترتوي من ظمأ ، وتأمن من خوف ، وتحس بالهداية بعد الحيرة ، وتشعر بالاستقرار بعد التخبط ، وتطمئن بعد القلق .
أيها الأخوة الكرام ، إن الإنسان خلق عجيب ، جُمع بين قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله فمن عرف جانب الطين ونسي نفخة الروح لم يعرف حقيقة الإنسان، ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءَه ورِيَّه ولم يعط الجانبَ الروحي غذاءَه وريَّه من الإيمان بالله والإقبال عليه فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها ، وجهل قدرها ، وحرمها ما به حياتها وقوامها .
قد تتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات ، أو غبار الشهوات ، وقد تنحرف وتتدنس باتباع الظن أو اتباع الهوى ، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء ، أو الطاعة العمياء للسادة والكبراء ، وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب فيظن نفسه شيئاً يقوم وحده ويستغني به الله ، بَيْدَ أن الفطرة الأصيلة تذبل ولا تموت ، وتكمن ولا تزول ، فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة ومصائبها ما لا قبل له به، ولا يد له ولا للناس في دفعه ولا رفعه ، فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة ، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة ، الآن بعد انكشاف الغرب ، وبعد لؤم الغرب ، وبعد عدوان الغرب ، وبعد استباحة الحقوق الإنسانية في الغرب ، بدأ الناس يعودون إلى فطرتهم ، بدأ الدين يقوى ، بدأ الشعور أن الحل في الإسلام .
2ـ وضوح الغاية والطريق عند المؤمن :
أيها الأخوة الكرام ، إنّ غير المؤمن يعيش في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة ، وتتنازعه غاياتٌ شتى ، هذه تميل به إلى اليمين ، وتلك إلى الشمال ، فهو في صراع دائم داخل نفسه ، وهو في حيرة بين غرائزه الكثيرة أيها يرضي غريزة البقاء أم غريزة النوع ؟ وهو حائر مرة أخرى بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه ، وهو حائر مرة ثالثة أيّ فئات المجتمع يرضي ؟ وهنا يذكرون الحكاية المشهورة ؛ حكاية الشيخ وولده وحماره ، من دون سكينة ، من دون صلة بالله ، من دون معرفة بالله ، من دون إيمان باليوم الآخر ، الإنسان في حيرة ، ركب الشيخ ومشى ولده وراءه فتعرض الشيخ للوم النساء ، ركب الولد ومشى الشيخ فتعرض الولد للوم الرجال ، ركبا معاً فتعرضا للوم دعاة الرفق بالحيوان ، مشيا معاً والحمار أمامهما فتعرضا لسخرية الأولاد ، ماذا بقي ؟ أن يحمل الحمار ، من دون إيمان ، من دون سكينة ، من دون منهج ، من دون هدف ، من دون وحي إلهي ، من دون بيان نبوي ، من دون يقينيات ، من دون ثوابت ، من دون مبادئ ، من دون تصورات صحيحة الإنسان في حيرة ، والآن البشر جميعاً في حيرة :
كل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
* * *
أيها الأخوة ، استراح المؤمن من هذا كله ، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص وإليها يسعى وهي رضوان الله تعالى ، لا يبالي معها برضى الناس أو سخطهم، شعاره ما قاله ذاك الشاعر :
إذا صح منك الودُّ فالكل هيــن ٌوكل الذي على التراب تــرابُ
فليتك تحلو والحياة مــــريرة وليتك ترضى والأنام غضــابُ
وليت الذي بيني وبينك عامــر وبيني وبين العالمين خـــرابُ
* * *
بطولة المؤمن أنه جعل همومه هماً واحداً :
أيها الأخوة ، من بطولة المؤمن أنه جعل همومه هماً واحداً ؛ هو سلوك الطريق الموصل إلى مرضاته تعالى ، والذي يسأل الله تعالى أن يهديه إليه في كل صلاة عدة مرات :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
هو طريق واحد لا عوج فيه ولا التواء ، قال تعالى :
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 153)
الحق واحد لا يتعدد أما الباطل لا ينتهي تعدده ، عمرك القصير يمكن أن يستوعب الحق لكن مستحيل وألف ألف مستحيل أن يستوعب الباطل فالنصيحة أن تستوعب الحق وليكن الحق مقياساً لكل شيء .
أيها الأخوة ، ما أعظم الفرق بين رجلين أحدهما عرف الغاية وعرف الطريق إليها ، وآخر ضالٌّ يخبط في عماية ويمشي إلى غير غاية ، لا يدري إلامَ المسير ؟ ولا إلى أين المصير ؟ قال تعالى :
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
( سورة المُلْك الآية : 22)
3ـ الشعور بمعية الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام ، إنّ في أعماق الإنسان أصواتاً خفيةً تناديه ، وأسئلةً تُلحُّ عليه، منتظرةً الجوابَ الذي يَذهبُ به القلق ، وتطمئنُّ به النفسُ ، ما العالم ؟ ما حقيقة الدنيا ؟ ما حقيقة الكون ؟ ما حقيقة الإنسان ؟ مِن أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ هذه الأسئلة يجيب عنها الدين إجابات عميقة متناسقة متكاملة مرضية لا تحتاج بعدها إلى سؤال .
أيها الأخوة الكرام ، المؤمن وقد اتصل بالله يعيش في معية الله ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ الشعور بمعية الله شعور لا يقدر بثمن ، قال العلماء : المعية العامة :
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
( سورة الحديد الآية : 4 )
معية العلم أما المعية الخاصة هي معية التوفيق ، معية الحفظ ، معية النصر ، معية التأييد :
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
( سورة الحديد الآية : 4 )
أما إن الله مع المؤمنين مع المتقين ، مع الصادقين ، هذه معية خاصة .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
***
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء :
أيها الأخوة الكرام ، الإنسان إذا تعرف إلى الله ، واستقام على أمره ، انعقدت صلته مع الله ، هذه الصلة تحتاج إلى استقامة ، ليس معنى هذا أن المؤمن لا يخطئ ، المؤمن يخطئ لكنه لا يصر على خطئه ، مذنب تواب ، سريعاً ما يتوب إلى الله عز وجل ، فالإنسان إذا استقام على أمر الله بعد أن عرفه انعقدت صلته مع الله عز وجل ، من خلال هذه الصلة الصحيحة تأتي السكينة ، السكينة أكبر عطاء إلهي ، أنت إنسان آخر ، إنسان متفائل ، إنسان تشعر أنك على الطريق الصحيح ، إنسان تعيش ما وعدك الله به في جنة عرضها السماوات والأرض .
فلذلك أيها الأخوة ، الدين له أشكال وله حقائق ، أن تقوم وتصلي هذه عبادة من العبادات الأساسية ، لكن أن تنعقد الصلة مع الله في الصلاة هنا المعول عليه ، أن تنعقد الصلة مع الله في الصلاة ، إن انعقدت تنزلت السكينة ، والسكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين

تعليقات