أين الله؟!


إنه سؤالٌ استِنكاري سأله الكفارُ، وسأله كل مَن على شاكلتهم من الطبيعيين والدهريين قديمًا، وسأله كل من الشيوعيين والوجوديين والماديين حديثًا؛ ذلكَ لأنهم يؤمنون بالمادة المحسوسة، ولا يعرفون إلا ما يُحسون بوجوده، وهم قد أنكروا الروحانيات وخاصموها، كما أنكروا وجود الله تعالى وتساءلوا: أين الله؟!

إنهم قالوا: إن هي إلا أرحامٌ تدفع، وأرضٌ تبلع، وما يُهلكنا إلا الدهر، وقالوا بنص القرآن الكريم الذي حكى عنهم رب العزة وفضح سرائرهم: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ [الصافات: 16]، إنَّ هؤلاء الذين مردوا على الكفر والنفاق مهما بلغت قواهم وطاوعتهم عقولهم إلى أن جابوا آفاق الأرض والسماء، أين هم من قبضة الله؟! وما مصيرهم بعد حياة طالت أم قصرت؟! ألا يسألون أنفسهم: مَن خلق هذا الكون وهذا الفضاء بما فيه، ذلك الذي يجوبون آفاقه؟! ألم يسألوا أنفسهم: أين هي أنفسهم وما سِرُّها؟!

إنها أسئلة وجب على من أعطي العقل السليم السديد أن يتفكر فيها، وأن يحاور نفسه لعله يصل إلى إجابة تُقنعه، ويدرك أن خالق هذا الكون وما فيه رب العالمين، وأن الروح من أمر الله يرسلها متى يشاء ويقبضها متى أراد، وكل ذلك في الكتاب مسطور.

يأتي القرآن الكريم ليضرب للعالمين المثل الذي يقرب إليهم حقيقة وجود الله وقدرته سبحانه على البعث والنشور؛ فقال تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]، والقرية الخاوية على عروشها، أي ساقطة على سقفها، ولفظة "أي" بمعنى: "كيف" للتساؤل، عن أي شيء، عن إحياء هذه القرية ومَن فيها بعد موتها، فكانت النتيجة أن أماته الله ثم بعثه ليشهد بقدرة الله تعالى، وتتحقَّق في نفسه هذه القدرة على وجود الله تعالى وقدرته سبحانه على إحياء الموتى؛ فقال: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ويعقِّب الترمذي على هذا المثل، بقوله: ".. ثم امره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه، فأراه بما حضره ما غاب عنه".

وتتجلى قدرة الله تعالى على البعث أن ساق هذه القدرة لأحد الأنبياء الصالحين، وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما تساءل لا للإنكار، وإنما لمجرد الاطمئنان والتثبُّت، وجاء ذلك بنص القرآن الكريم؛ يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي... ﴾ [البقرة: 260]، فضرب الله هذا المثل لإبراهيم عليه السلام؛ وذلك ليقرب له المعنى في صورة محسوسة يُدركها بعقله وحواسه، وهذا التثبت بعينه حتى يكون المؤمن على يقين تام بأن الله تعالى موجودٌ وقادر على البعث والنشور، فعمل متيقنًا بأن الله يراقبه وسوف يحاسبه عن أعماله وأفعاله يوم القيامة.

وإن كان هذا المثل للنبي من الآيات ساقَه ربُّ العزة خلال القرآن الكريم، إنما هو مضرب مثل للتثبت والتأكد والاطمئنان ليس للأنبياء فقط، وإنما للعالمين كافة، وهو قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والحقائق ظاهرة بيِّنة على وجود الله وعلى قدرته - سبحانه وتعالى - رأيَ العين لنا بني البشر في كل وقت وكل حين؛ فمَن خلق السماء وما فيها؟! ومَن خلَق الشمس والأرضين؟! ومن أنبت الزرعَ ومن ساق السُّحب؛ ليحيي بها الأرض الميتة؟! ومن خلَق الحبَّ؟ إنَّها قدرة الله تعالى التي لا تحتاج إلى كدٍّ أو تعبٍ أو إرهاق للعقل؛ وذلك للبحث عن حقيقة ضائعة، وإنما الحقيقة بينة واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء.

ألا يرتدع هؤلاء عن غيّهم وكفرهم وصلَفِهم وغرورهم الذي طمسَ على عقولهم الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان، ويتعجَّبون من خلق السماوات والأرض، فهذا شاعرٌ يتعجب لقدرة الله التي لا تحدُّها حدود ولا تقيدها سدود:
عجبتُ للأرض تعطي الخير أهليها 
والكفر يَرجُمها والشركُ يؤذيها! 
عجبت للشمس مَن في الصبح يُظهرها
وفي دُجى الليلِ والظلماء يُخفيها 
عجبت للحبَّة الصماء نبذرها 
في الأرض تؤتي ثمارًا ثمَّ نَجنيها 
عجبت للوردة الفيحاء نقطفها 
من ذا الذي أودع العطر الذي فيها؟! 
عجبت للحيَّة الرقطاء مسكنها 
في الصخر لا ماء بين الصخر يسقيها 
عجبت للروح أين الروح من جسدي 
مَن عنده عِلمها؟ سبحان باريها 
العلم لله كل الأرض قبضته 
إن شاء يُبقيها أو إن شاء يُفنيها 
سبحانه من إله واحدٍ أحد 
يُبلي العظام وأنَّى شاء يُحييها


تعليقات