حــفـــظ الـلـســــان


إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب" جملة عظيمة قالها لقمان عليه السلام لابنه وهو يعظه، ولا شك أنها وصية عظيمة جليلة لو عمل بها الناس لاستراحوا وأراحوا، ألا ترى أن اللسان على صغره فهو عظيم الخطر، فلا ينجو من شرِّ اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فيكفه عن كل ما يخشى عاقبته في الدنيا والآخرة. أما من أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخيَ العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هارٍ، أن يضطره إلى دار البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
فعن معاذ رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره اللّه عليه: تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)[السجدة:16] حتى بلغ (يعملون) ثم قال: ألا أخبركم برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه: قلت: بلى يا رسول اللّه قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت بلى يا رسول اللّه، قال: فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا. فقلت: يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم".
احـفظ لســانك أيهـا الإنســـــان              لا يلــــدغـنـــك إنـــه ثعــبـــان
كـم فـي المقابر مـن قتيل لسـانه              كـانت تخــاف لقـاءه الشــجعان
أطيبُ الكلام تُورث سكنى أعالي الجنان:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غُرفًا يُرى ظاهرها من باطنها وباطُنها من ظاهرها، أعدَّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، صلَّى بالليل والناسُ نيام".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطِب الكلام، وأفشِ السلام، وصِل الأرحام، وصلِّ بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام". ومما يدل على عظم خطورة اللسان قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) رواه البخاري (6487) .وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله! حدِّثني بأمرٍ أعتصم به؛ قال: "قل: ربي الله ثم استقم". قلت: يا رسول الله! ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "هذا".
ومن حفظ اللسان طول الصمت إلا عن خير:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك بُحسن الخلُق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما تجمَّل الخلائق بمثلهما".
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها" قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: "أنيسلم المسلمون من لسانك".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: جاء أعرابيٌُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! علِّمني عملاً يدخلني الجنة. قال: "إن كنت أقصرتَ الخُطبة لقد أعرضت المسألة، اعتقِ النسمة، وفُكَّ الرقبة، فإن لم تُطِق ذلك، فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تُطق ذلك، فكُفَّ لسانك إلا عن خير". وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جارُه بوائقه". وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلَّمت كُتِبَ لك أو عليك".
 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان؛ فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
أقسام الكلام:
ويدلك على فضل الصمت أمرٌ، وهو أن الكلام أربعة أقسام:
1- قسم هو ضررٌ محض.          2- وقسم هو نفع محض.
3- وقسم هو ضررٌ ومنفعة.      4-قسم ليس فيه ضررٌ ولا منفعة.
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فُضُول ، والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع؛ فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي رُبع، وهذا الربع فيه خطر، إذ يمتزجُ بما فيه إثم، من دقيق الرياء والتصنُّع والغيبة وتزكية النفس، وفضول الكلام، امتزاجًا يخفى دركُه، فيكون الإنسان به مخاطرًا.
ومن عرف دقائق آفات اللسان، علم قطعًا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصلُ الخطاب، حيث قال: "من صمت نجا". فلقد أوتي والله جواهر الحكم، وجوامع الكلم، ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواصُّ العلماء.
 ترك الكلام فيما لا يعني:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه" .
وقال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير، ومن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه.
وقال عطاء بن أبي رباح لمحمد بن سُوقة وجماعة: يا بني أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ) [الانفطار:10، 11]، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *  مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17، 18]. أمَا يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها، ليس من أمر دينه، ولا دُنياه.
فاحفظ لسانك أيها الحبيب تنج:
عـود لســانك قول الخير تنج به                مـن زلة اللفظ أو من زلة القـدم

تعليقات