شرح حديث


شرح حديث:
«إنَّ الله وملائكته وأهل السَّموات والأرض حتَّى النَّملة في جحرها وحتَّى
الحوت ليصلُّون على مُعلِّم النَّاس الخير»


عن أبي أمامة الباهليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: ذُكِرَ لرسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجُلان: أحدهما عابدٌ، والآخر عالمٌ، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فضلُ العالم على العابد كفضلي علىٰ أدناكم)). ثمَّ قالَ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ الله وملائكته وأهل السَّموات والأرض حتَّى النَّملة في جحرها وحتَّىٰ الحوت ليصلُّون علىٰ مُعلِّم النَّاس الخير)) ([1]).
الشَّرح:

قالَ الحافظُ المناويُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ في «فيض القدير» (4 / 432، 433): «فضلُ العالم على العابد كفضلي علىٰ أدناكم» أيْ: نسبة شرف العالم إلىٰ شرف العابد كنسبة شرف الرَّسول إلىٰ أدنى شرف الصَّحابة، فإنَّ المخاطبين بقوله "أدناكم" الصَّحب وقد شُبهوا بالنُّجوم في حديث: ((أصحابي كالنُّجوم))، وهذا التَّشبيه يُنبَّه علىٰ أنَّهُ لا بدَّ للعالم مِنَ العبادة، وللعابد مِنَ العلم، لأنَّ تشبيههما بالمصطفىٰ وبالعلم يستدعي المشاركة فيما فُضِّلوا به مِنَ العلم والعمل، كيف لا، والعلم مقدّمة للعمل، وصحَّة العمل، متوقِّفة على العلم ؟ (ذكره الطَّيِّبي).
وقالَ الذَّهبيُّ: إنَّما كان العالم أفضل لأنَّ العالم إذا لم يكن عابدًا فعلمه وبالٌ عليه؛ وأمَّا العابد بغير فقهٍ فمع نقصه هو أفضل بكثير مِنْ فقيهٍ بلا تعبُّد، كفقيه همَّته في الشُّغل بالرِّئاسة.اهـ.
وقالَ ابن العربيُّ: للفظ العلم إطلاقات متباينة ينشأ عنها اِخْتلاف الحدّ والحكم أيضًا، كلفظ العالم والعلماء، وللالتباس الواقع في لفظ العلم غلط كثير مِنَ النَّاس في معنى خبر فضل العالم على العابد، فحملوه على الفقيه بالمعنى المُتعارف الآن، وأنْ يكون ذٰلك والتَّقابل بين العالم والعابد في الحديث ينافي الاِشتراك في صفة العلم الَّتي بها التَّقابل كما هو الظَّاهر، إذ لا عابد بدون علم الفقه في الجملة وأوضح من هذه الحجَّة الاِتفاق علىٰ أنَّ العبادة أفضل من العلم العملي المتعلق بها فيقتضي فضل العابد على العالم، والحديث مصرح بخلافه، ومنَ الواضح أنَّ التَّفضيل هـٰهنا إنَّما هو بحسب الوصف العنواني فافهم.
على أنَّ التَّوجيهات قليلة هنا كثيرة، لكن بتعسف فلا يلتفت إليها عند المحصلين والتَّحقيق في ذلك ما قاله حجَّة الإسلام ونصَّه، ثمَّ العلم المقدَّم على العمل لا يخلو إمَّا أنْ يكون هو العلم بكيفية العمل وهو علم الفقه وعلم كيفية العبادات، وإمَّا أنْ يكون علمًا سواه وباطل أنْ يكون الأول، هو المراد لوجهين:
° أحدهما: أنْ فضَّل العالم على العابد، والعابد: هو الَّذي له علم العبادات فإن كان جاهلاً فهو عابث فاسق.
° والثَّاني: أنَّ العلم بالعمل لا يكون أشرف مِنَ العمل، لأنَّ العلم العملي يُراد للعمل وما يُراد لغيره يستحيل أنْ يكون أشرف منه، إلىٰ هنا كلامه ودعواه الاتِّفاق غير جيد لتصريحهم بأنَّ التَّخلي لتعلم الفقه الَّذي منه العلم المتعلِّق بالعبادة أفضل مِنَ الاشتغال بالنَّفل الَّذي هو من العبادة فهو كما ترىٰ ينادي بردِّ هٰذا الاتِّفاق.
((إنَّ الله عزَّ وَجَلَّ وملائكته، وأهل السَّمـٰوات والأرضين، حتَّى النَّملة في جحرها، وحتَّى الحوت ليُصلُّون علىٰ معلِّم النَّاس الخير)). أيْ: يستغفرون لهم طالبين لتخليهم عمَّا لا ينبغي ولا يبق بهم من الأوضار والأدناس، لأنَّ بركة علمهم وعملهم وإرشادهم وفتواهم سبب لانتظام أحوال العالَم، وذكر النَّملة والحوت بعد ذكر الثَّقلين والملائكة تتميمٌ لجميع أنواع الحيوان على طريقة الرَّحمـٰن الرَّحيم، وخصَّ النَّملة والحوت بالذِّكر للدلالة علىٰ إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم، كما قال بهم تنصرون وبهم ترزقون حتَّىٰ أن الحوت الَّذي لا يفتقر إلى العلماء اِفْتقار غيره لكونه في جوف الماء يعيش أبدًا ببركتهم. (ذكره القاضي).
وقالَ الطَّيِّبيُّ: قوله: ((إنَّ الله وملائكته)) جملة مستأنفة لبيان التَّفاوت العظيم بين العالم والعابد، وأنَّ نفع العابد مقصورٌ علىٰ نفسه، ونفع العالم مُتجاوزٌ إلى الخلائق حتَّىٰ النَّملة، وعطف أهل السَّمـٰوات على الملائكة تخصيصٌ بحملة العرش، وسكَّان أمكنة خارجة عن السَّمـٰوات والأرض مِنَ الملائكة المقرَّبين، كما ثبت في النُّصوص، وفي «يُصلُّون» تغليب للعقلاء علىٰ غيرهم واشْتراك، فإنَّ الصَّلاة مِنَ الله رحمةٌ، ومِنَ الملائكة اِسْتغفارٌ، ومِنَ الغير دعاءٌ، وطلب وذكر النَّملة وتخصيصها مُشعرٌ بأنَّ صلاتها بحصول البركة النَّازلة مِنَ السَّماء، فإنَّ دأب النَّملة القنيَّة وادِّخارها القوت في جحرها، ثمَّ التَّدرج منها إلى الحيتان، وإعادة كلمة الغاية للتَّرقي.
والصَّلاة من الله، بمعنى: الرَّحمة، ومن الملائكة، بمعنى: الاِسْتغفار المعبَّر به في الرِّواية الأخرىٰ، ولا رتبة فوق رتبة مَنْ تشتغل الملائكة وجميع المخلوقات بالاِسْتغفار والدُّعاء له إلى القيامة، ولهٰذا كان ثوابه لا ينقطع بموته، وأنَّهُ ليتنافس في دعوة رجل صالح، فكيف بدعاء الملأ الأعلىٰ؟!
وأمَّا إلهام الحيوانات الاسْتغفار له، فقيل: لأنَّها خُلقت لمصالح العباد ومنافعهم، والعُلماء هم المبيِّنون ما يحلُّ منها وما يحرم، ويُوصون بالإحسان إليها، ودفع الضُّر عنها، حتَّى بإحسان القتلة، والنَّهي عَنِ المُثلة، فاسْتغفارهم لهُ شكرٌ لذٰلك النّعمة، وذٰلك في حقِّ البشر آكد لأنَّ اِحتياجهم إلى العلم أشدٌّ وعود فوائده عليهم أتمٌّ.اهـ.

تعليقات