فصل منزلة الخشوع




فصل منزلة الخشوع 
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخشوع 
 قال الله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين ، وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . 
 والخشوع في أصل اللغة الانخفاض ، والذل ، والسكون ، قال تعالى وخشعت الأصوات للرحمن أي سكنت ، وذلت ، وخضعت ، ومنه وصف الأرض بالخشوع ، وهو يبسها ، وانخفاضها ، وعدم ارتفاعها بالري والنبات ، قال تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . 
 والخشوع : قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل ، والجمعية عليه 
 وقيل : الخشوع الانقياد للحق ، وهذا من موجبات الخشوع . 
 فمن علاماته أن العبد إذا خولف ورد عليه بالحق استقبل ذلك بالقبول والانقياد . 
 وقيل : الخشوع خمود نيران الشهوة ، وسكون دخان الصدور ، وإشراق نور التعظيم في القلب . 
[ ص: 517 ] وقال الجنيد : الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب . 
 وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب ، وثمرته على الجوارح ، وهي تظهره ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه قال النبي صلى الله عليه وسلم التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات وقال بعض العارفين : حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن ، ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن ، فقال : يا فلان ، الخشوع هاهنا ، وأشار إلى صدره ، لا هاهنا ، وأشار إلى منكبيه . 
وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو حذيفة ، يقول : إياكم وخشوع النفاق ، فقيل له : وما خشوع النفاق ؟ قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع ، ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة ، فقال : يا صاحب الرقبة ، ارفع رقبتك ، ليس الخشوع في الرقاب ، إنما الخشوع في القلوب ، ورأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون ويتمارون في مشيتهم ، فقالت لأصحابها : من هؤلاء ؟ فقالوا : نساك ، فقالت : كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع ، وإذا أطعم أشبع ، وكان هو الناسك حقا ، وقال الفضيل بن عياض : كان يكره أن يري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه ، وقال حذيفة رضي الله عنه : أول ما تفقدون من دينكم الخشوع ، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ، ورب مصل لا خير فيه ، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا ، وقال سهل : من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان .
الخشوع : خمود النفس ، وهمود الطباع لمتعاظم ، أو مفزع . 
 يعني انقباض النفس والطبع ، وهو خمود قوى النفس عن الانبساط لمن له في القلوب عظمة ومهابة ، أو لما يفزع منه القلب . 
 والحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم ، والمحبة ، والذل والانكسار . 
 قال : وهو على ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : التذلل للأمر ، والاستسلام للحكم ، والاتضاع لنظر الحق . 
 التذلل للأمر تلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال . ومواطأة الظاهر الباطن ، مع إظهار الضعف ، والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل ، والإعانة عليه حال الفعل ، وقبوله بعد الفعل . 
 وأما الاستسلام للحكم فيجوز أن يريد به الحكم الديني الشرعي ، فيكون معناه عدم معارضته برأي أو شهوة ، ويجوز أن يريد به الاستسلام للحكم القدري ، وهو عدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض . 
 والحق أن الخشوع هو الاستسلام للحكمين ، وهو الانقياد بالمسكنة والذل لأمر الله وقضائه . 
 وأما الاتضاع لنظر الحق فهو اتضاع القلب والجوارح ، وانكسارها لنظر الرب إليها ، واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح ، وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وهو مقام الرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية . 
 فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة ، وكلما كان أشد [ ص: 519 ] استحضارا له كان أشد خشوعا ، وإنما يفارق القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ، ونظره إليه . 
 والتأويل الثاني : أنه مقام العبد بين يدي ربه عند لقائه . 
 فعلى الأول يكون من باب إضافة المصدر إلى الفاعل . 
وعلى الثاني وهو أليق بالآية يكون من باب إضافة المصدر إلى المخوف ، والله أعلم .
قال : الدرجة الثانية : ترقب آفات النفس والعمل ، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك ، وتنسم نسيم الفناء . 
 يريد انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما لك ، فإنه يجعل القلب خاشعا لا محال ، لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما من الكبر ، والعجب ، والرياء ، وضعف الصدق ، وقلة اليقين ، وتشتت النية ، وعدم تجرد الباعث من الهوى النفساني ، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك ، وغير ذلك من عيوب النفس ، ومفسدات الأعمال . 
 وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ، ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم ، فلا تعاوضهم عليها . فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها . ولا تطالبهم بحقوق نفسك ، وتعترف بفضل ذي الفضل منهم ، وتنسى فضل نفسك . 
 وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : العارف لا يرى له على أحد حقا ، ولا يشهد على غيره فضلا ، ولذلك لا يعاتب ، ولا يطالب ، ولا يضارب . 
وأما تنسم نسيم الفناء فلما كان الفناء عنده غاية ، جعل هذه الدرجة كالنسيم لرقته ، وعبر عنها بالنسيم للطف موقعه من الروح ، وشدة تشبثها به ، ولا ريب أن الخشوع سبب موصل إلى الفناء ، فاضله ومفضوله .
قال : الدرجة الثالثة : حفظ الحرمة عند المكاشفة ، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق ، وتجريد رؤية الفضل . 
 أما حفظ الحرمة عند المكاشفة فهو ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال ، الذي تقتضيه المكاشفة ، فإن المكاشفة توجب بسطا ، ويخاف منه شطح ، إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة . 
 وأما تصفية الوقت من مراءاة الخلق فلا يريد به أن يصفي وقته عن الرياء ، فإن أصحاب هذه الدرجة أجل قدرا وأعلى من ذلك . 
 وإنما المراد أن يخفي أحواله عن الخلق جهده ، كخشوعه وذله وانكساره ، لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها ، ورؤيتهم لها ، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله ، وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك ؟ والمعصوم من عصمه الله ، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل ، وأنه لا شيء ، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه . 
 ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره ، وكان يقول كثيرا : ما لي شيء ، ولا مني شيء ، ولا في شيء ، وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت : 
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول : والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت ، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا . 
 وبعث إلي في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه ، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه : 
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات
[ ص: 521 ] وليس لي دونه مولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات
ولست أملك شيئا دونه أبدا ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلبا من غير خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه ما كان منه وما من بعد قد ياتي
وأما تجريد رؤية الفضل فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله ، فهو المان به بلا سبب منك ، ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة ، ولا وسيلة سبقت منك توسلت بها إلى إحسانه . 
والتجريد هو تخليص شهود الفضل لوليه ، حتى لا ينسبه إلى غيره ، وإلا فهو في نفسه مجرد عن النسبة إلى سواه ، وإنما الشأن في تجريده في الشهود ، ليطابق الشهود الحق في نفس الأمر ، والله أعلم .
فإن قيل : ما تقولون في صلاة من عدم خشوع هل يعتد بها أم لا ؟ 
 قيل : أما الاعتداد بها في الثواب فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها ، وخشع فيه لربه . 
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها . 
 وفي المسند مرفوعا إن العبد ليصلي الصلاة ، ولم يكتب له إلا نصفها ، أو ثلثها ، أو [ ص: 522 ] ربعها حتى بلغ عشرها . 
 وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم ، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح ، ولو اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين . 
 وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا ، وسقوط القضاء فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا ، وكانت السنن ، والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها . 
 وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها ، وعدم تعقلها ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها ، فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد ، وأبو حامد الغزالي في إحيائه ، لا في وسيطه وبسيطه . 
[ ص: 523 ] واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها ، ولم يضمن له فيها الفلاح ، فلم تبرأ ذمته منها ، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي . 
 قالوا : ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولبها ، فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبها ، وبقيت صورتها وظاهرها ؟ . 
 قالوا : ولو ترك العبد واجبا من واجباتها عمدا لأبطلها تركه . وغايته : أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة ، فكيف إذا عدمت روحها ، ولبها ومقصودها ؟ وصارت بمنزلة العبد الميت ، إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد ، يعتقه تقربا إلى الله تعالى في كفارة واجبة ، فكيف يعتد بالعبد الميت . 
 وقال بعض السلف : الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك ، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء ، أو عوراء ، أو عمياء ، أو مقطوعة اليد والرجل ، أو مريضة ، أو دميمة ، أو قبيحة ، حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة ، فكيف بالصلاة التي يهديها العبد ، ويتقرب بها إلى ربه تعالى ؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها ، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه . 
 قالوا : وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع : تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته ، وعزل له عنها ، فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها ، وقد عزل ملكها وتعطل ؟ . 
 قالوا : والأعضاء تابعة للقلب ، تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، فإذا لم يكن قائما بعبوديته ، فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها ، وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه ، وعن أمره يصدرون ، وبه يأتمرون ؟ . 
 قالوا : وفي الترمذي وغيره ، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل وهذا إما خاص بدعاء العبادة ، وإما عام له ولدعاء المسألة ، وإما خاص [ ص: 524 ] بدعاء المسألة الذي هو أبعد ، فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب غافل . 
 قالوا : ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص ، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد . والغافل لا قصد له ، فلا عبودية له . 
 قالوا : وقد قال الله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون وليس السهو عنها تركها ، وإلا لم يكونوا مصلين ، وإنما هو السهو عن واجبها إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره ، وإما عن الحضور والخشوع ، والصواب أنه يعم النوعين ، فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ، ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب ، أو عن إخلاصها وحضورها الواجب ، ولذلك وصفهم بالرياء ، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء . 
 قالوا : ولو قدرنا أنه السهو عن واجب فقط ، فهو تنبيه على التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوه : 
 أحدها : أن الوقت يسقط في حال العذر ، وينتقل إلى بدله ، والإخلاص والحضور لا يسقط بحال ، ولا بدل له . 
 الثاني : أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور ، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور ، كالمسافر ، والمريض ، وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع ، كما نص عليه أحمد وغيره . 
 فبالجملة : مصلحة الإخلاص والحضور ، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها ، فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة ، أو اعتدال في ركن ، أو ترك حرف ، أو شدة من القرآن ، أو ترك تسبيحة أو قول سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه ، ثم يصححها مع فوت لبها ، ومقصودها الأعظم ، وروحها وسرها . 
 فهذا ما احتجت به هذه الطائفة ، وهي حجج كما تراها قوة وظهورا . 
 قال أصحاب القول الآخر : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال إذا أذن [ ص: 525 ] المؤذن أدبر الشيطان ، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل ، فإذا ثوب بالصلاة أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه ، فيذكره ما لم يكن يذكر ، ويقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس . 
 قالوا : فأمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها ، حتى لم يدر كم صلى بأن يسجد سجدتي السهو ، ولم يأمره بإعادتها ، ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها . 
 قالوا : وهذا هو السر في سجدتي السهو ، ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد ، وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة . ولهذا سماهما النبي صلى الله عليه وسلم " المرغمتين " ، وأمر من سها بهما ولم يفصل في سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين القليل والكثير ، والغالب والمغلوب ، وقال لكل سهو سجدتان ولم يستثن من ذلك السهو الغالب ، مع أنه الغالب . 
 قالوا : ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة ، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب ، فلله تعالى حكمان : حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح ، وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ، ويكل أسرارهم إلى الله فيناكحون ، ويرثون ويورثون ، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا ، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة ، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة ، وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر ، بل إلى الله ، والله يتولاه في الدار الآخرة . 
 نعم لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلا ولا آجلا ، فإن للصلاة [ ص: 526 ] مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه ، واستنارته ، وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة ، والفرح والسرور ، واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله ، وحضر قلبه بين يديه ، كما يحصل لمن قربه السلطان منه ، وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله أعلى وأجل . 
 وكذلك ما يحصل لهذا من الدرجات العلى في الآخرة ، ومرافقة المقربين . 
 كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع ، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا ، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض ، وليس كلامنا في هذا كله . 
 فإن أردتم وجوب الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه ، وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ، ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا . 
وهذا القول الثاني أرجح القولين ، والله أعلم .

تعليقات