الكنز الذي لا يفني ..


إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...
الكنز الذي لا يفني
حينما يدرك المؤمن قيمة الدنيا، وحقيقة الحياة فيها، وحينما يفيض قلبه بالإيمان ومعرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، يتولد له من ذلك الإدراك وذلك الإيمان خلق نفساني غال هو القناعة.. ذلك الكنز الذي لا يفنى.
ومع جموح أغلب الناس في هذه الأعصار إلى التهافت على الدنيا ومغرياتها يظل كنز القناعة – مع سهولة نيله واكتسابه – أثمن وأغلى، وأنفس وأحظى.
فمـا هـي الـقـناعة؟ ومـا هـو حكـمـها؟ ومـا هـو الطـريق إلـيهـا؟
أصل القناعة
العقيدة الصحيحة هي وحدها الأصل الصلب الذي يبنى عليه صرح القناعة الشامخ. فالإيمان بالله سبحانه ومعرفته بأسمائه وصفاته وما تشتمل عليه من صفات الجلال والجمال، وكذلك الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره كلها أصول توجب خصالاً حميدة يتولد منها خلق القناعة ذلك الخلق النفيس.
فمن صفات الله جل وعلا صفة العلم والحكمة والخبرة، كما أخبر سبحانه عن نفسه في آيات كثيرة من كتابه وعلى لسان نبيه صلي الله عليه وسلم، والمؤمن الذي يستشعر قلبه كما علم الله سبحانه وسعة خبرته، وفيض حكمته يوظف استشعاره ذاك في تدبر كلامه وأمره وبيانه في كتابه وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم فينتج عن ذلك وقوفه على حقيقة وجوده، وحقيقة الدنيا, وحقيقة القناعة وفوائدها الثمينة في الدنيا والآخرة؛ لأنه يدرك أنه يتلقي هذه الحقائق من خالقها وخالق الوجود ومن العليم الحكيم الخبير ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.
فالمؤمن الصادق الذي يعرف الله بصفاته مهما أرغمته نفسه على الانجراف إلى شهوات الدنيا، فهو يرغمها على القناعة بما يملكه من كنوز الاعتقاد.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر يدفع المؤمن إلى الزهد في الدنيا، ويحمله على جهل سائر همومه في اليوم الآخر يوم الحساب؛ لأنه يدرك أنه عابر سبيل لا قرار له فيها كما تلقى ذلك عن رسول اللهصلي الله عليه وسلم حيث قال: «مالي وللدنيا! إنما مثلى ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظلِّ شجره ثم راحَ وتركها» [رواه أحمد والترمذي]، وهذا ما يجعله بالضرورة قنوعًا في سائر أحواله.
وكذلك الإيمان بالقدر خيره وشرِّه يبعث قلب المؤمن على الاطمئنان الكامل فيتولد عن ذلك خُلق الرضا متراميًا في انشراح صدر المؤمن مهما كان حاله في الدنيا، لا يرى متسخطًا من قلة رزق ولا من ضعف حيلة أو حلول عيلة, وهذا ما يجعله أيضًا قنوعًا راضيًا مطمئنًا.
إذًا فالقناعة خلق متولد من أصل عقدي واجب هو معرفة الله سبحانه والإيمان بقدره خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، وبحسب إيمان المسلم بهذا الأصل العظيم وإعماله له في واقع حياته تكون قناعته وزهده وورعه.
وليس معرفة أصول الإيمان معرفة علمية سردية جافة من مضمونها العملي هو ما يميز القنوع من الجشوع, وإنما اليقين المقرون بالعمل هو ما يوجب القناعة وإن كان صاحبه لا يحفظ من أدلة تلك الأصول سوى معانيها ومضامينها الصحيحة الثمينة.
ولهذا قد تجد من الناس من امتلك خلق القناعة نابعًا من عقيدته الصحيحة دونما ضبط لأدلتها العلمية بينما يوجد من قد ينتسب للعلم وليس له من القناعة من نصيب.
قال الأصمعي: بينما أنا بالحاجز من عنزه إذ بصرت بأعرابي إلى جانب أكمه قد اشتمل بشملة فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: يا أعرابي، أين منزلك؟ قال: بالخضراء حيث ترى، وأشار إلى شجرة غير بعيدة. فقلت: وأين أهلك؟ قال: في ملك مالك! قلت: فما مالك؟ فقال الأعرابي:
للناس مــال ولي مالان ما لهما إذا تحارس أهـل المــال أحراسُ
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه ومالي اليأس مما يملك الناسُ
كيف تكسب القناعة؟!
القناعة خُلقٌ نفسي كسائر الأخلاق التي تتأثر بعوامل عدة، كالتربية والبيئة وزيادة الإيمان ونقصانه وعلو الهمة أو دونها.
وأهم أسباب اكتساب هذا الخلق النفيس:
العلم: فالعلم الشرعي من أعظم مفاتيح القناعة؛ لأنه طريق معرفة حقيقتها وفوائدها ومضار التفريط فيها، ولذا فإنك تجد أغلب الزهاد الصادقين العباد الورعين هم أهل العلم وطلابه، وهذا واضح لمن تتبع تراجم علماء السلف في المصادر التاريخية.
فالعلم الشرعي يوقف صاحبه على حقيقة الدنيا ويكشف أسرارها ومضار الاهتمام لها ويرغبه في الآخرة وجعل الهم كله لها.
قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
ولذا فإنك تجد من أقوال علماء السلف حكمًا بليغة في وصف الدنيا وترهيب الناس من الحرص عليها. قال الحسن البصري رحمه الله: «إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب». وسئل إبراهيم بن أدهم كيف أنت, فأنشد يقول:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرفعُ
فطوبى لعبــد آثر الله ربـه وجــاد بدنيــاه لما يتوقعُ
وقال عبد الله بن عون: «إن من قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم».
وكما أن العلم يوقف المؤمن على حقيقة الدنيا فهو أيضًا طريق الإيمان والعقيدة الصحيحة وفهم التوحيد الذي هو أصل القناعة ومنبعها، ولذلك قال الله جل وعلا مخاطبًا نبيه الكريمصلي الله عليه وسلم : ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾.
وقد تقدم أن معرفة الله بأسمائه وصفاته وتدبر معانيها الجليلة الجميلة وصحة الاعتقاد في اليوم الآخر والقدر خيره وشره لها الأثر الأكبر في اكتساب القناعة والزهد والرضا.
الإيمان الراسخ: ولهذا -أخي الكريم- فإن القناعة الناشئة عن الرضا بقدر الله وقضائه، وعن العلم بأحوال الدنيا وحقيقتها، وعن المعرفة العميقة بصفاته الله الحسنى وأسمائه العلى هي دليل عمق الإيمان في القلوب، وبحسب قوة الإيمان تكون قوة القناعة وصلابتها أمام فتن الدنيا في زمن التهافت والتنافس عليها.
ولهذا تجد أغلب الآيات التي تذم الدنيا في القرآن الكريم تختم في الغالب بتذكير المؤمن بنعيم الآخرة، وفي ذلك إشارة لما لقوة الإيمان بالآخرة من تأثير بليغ على إنشاء القناعة في القلوب والزهد في الدنيا الفانية، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾.
تبًا لطالب دنيــــا لا بقاءَ لهـــا كأنَّمــا هي في تصريفها حُلُمُ
صفاؤهـــا كدرٌ، سراؤهـــا ضررٌ أمانهـا غرر، أنوارها ظُلَم
شبابهــا هرمٌ، راحاتهـــا سقمٌ لذاتهـــا ندم، وجدانهـــا عدمُ
فخل عنهــا ولا تركن لزهرتهــا فإنها نعــم في طيتهـــا نقمُ
واعمل الدار النعيم لا نفاذ لها ولا يُخاف بها موت ولا هَرمُ
الفهم السليم لعقيدة القضاء والقدر: فإن المؤمن الذي صفا معتقده في باب القضاء والقدر لا تراه إلا راضيًا بما يسره الله في معيشته قانعًا بحاله غنيًا في نفسه، كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ارضَ بما قسم الله لك؛ تكن أغنى الناس» [رواه أحمد].
والسرُّ في أن الفهم السليم للقضاء والقدر من عوامل اكتساب القناعة هو أن الله جل وعلا قد قسم الأرزاق وأحوال المعيشة كلها في الأزل، وتقسيمه سبحانه حكم قدره وقضاه بحكمته وعلمه ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾.
فإذا أدرك المسلم أن حرصه وجشعه وحمله لهموم الدنيا والمال لا يفيده شيئًا في زيادة رزقه؛ لأنه لن يستطيع التعقيب على الله في حكمه وقدره، أوجب له إدراكه ذاك قناعة وراحة وطمأنينة لوضعه وحاله غنيًا كان أم فقيرًا.
قال بعض السلف: «إذا كان القدر حقًا فالحرص باطل، وإذا كان القدر في الناس طبعًا فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموتُ لكل أحد راصدًا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق».
عاتب أعرابي أخاه على الحرص فقال له: «يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلبُ ما قد كفيته، كأنَّك يا أخي لم تر حريصًا محرومًا ولا زاهدًا مرزوقًا».
ورضا المؤمن بقضاء الله وقدره يورثه عينًا بصيرة بأحواله المعيشة وحقيقة قسمتها، فالله جل وعلا الذي كتب عليه رزقه هو الذي فاوت بين الأرزاق وفضل بعضًا على بعض في الرزق، وأخبر بذلك سبحانه فقال: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وهذا التفاوت في حد ذاته ابتلاء بين الناس.. ابتلاء للغني بالزياة، وابتلاء للفقير بالنقص، وليس في التفاضل بينهما في الرزق دليل على التفاضل في الدنيا والمنزلة عند الله، بل غالب النصوص الشرعية في الكتاب والسنة تدل على أن الفقر أسلم للمؤمن من الغنى، فقد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «للفقر أسرع إلى من يتبعني من السيل إلى منتهاهُ». وقال صلي الله عليه وسلم: «إن الله إذا أحب عبدًا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» [رواه ابن ماجه].
خذ القناعة من دنيــاك وارض بهــا لــو لــم يكن لك إلا راحــة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
فلا تغــرنك الدنيـــا وزينتهــا وانظــر إلى فعلهــا في الأهـــل والوطن
فإذا تأمل المؤمن هذه النصوص وغيرها؛ أدرك تمامًا حاجته الملحة للقناعة وأنه أحوج إلى الرضا بما قسمه الله له من المال والجاه، بل من فقه المؤمن وعمق معرفته بدقائق هذا الشأن أن يشكر الله الذي باعد بينه وبين أسباب فتنة المال ومعاطبه، وهذا نحكيه ونستغفر الله.
المجاهدة والتصبر: فإن نزعات النفس وجموحها للشهوات والملذات مما جبلت عليه. قال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
ومن جموحها وطموحها منازعة القناعة في القلب, وما لم يجاهد المؤمن نفسه في جموحها ويكبح تفلتها وتطلعها لمغريات الدنيا ومظاهرها الزائفة فإنها قد تفتح عليه أبواب الحرص والطمع والشح والهلع، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فجعل سبحانه الوقاية من الشح دليلاً على الفلاح.
وقال صلي الله عليه وسلم: «اتقوا الشح؛ فإن الشحَّ أهلكَ من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» [رواه مسلم].
قال طائفة من العلماء: «الشحُّ: هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها ويمنعها حقوقها، وحقيقته أن تتشوق النفس إلى ما حرم الله ومنع منه، وأن لا يقنع الإنسان بما أحله الله له من مال أو فرج أو غيرهما، فإن الله تعالى أحل لنا الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس، والمناكح، وحرم تناول هذه الأشياء من غير وجوه حلها» [ذم المال والجاه، لابن رجب الحنبلي ص25].
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنعُ
وكبح جموح النفس وإرغامُها على القناعة يتطلب صبرًا جلدًا من المؤمن القانع، وقد قال صلي الله عليه وسلم: «أفضل الإيمان الصبر والسماحة»؛ فالصبر هنا يكون على المحارم كما يكون على الشبهات، لأن القناعة تستلزم الزهد والرضا والورع، والبعد عن الحرص والتنافس في الدنيا وهذا قد يعرض المؤمن إلى غربة بين الناس؛ لأن أكثرهم مائلون إلى الدنيا ومبهورون بزخارفها، كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾.
كما يعرضه إلى ترك التوسع في المباحات أو ربما العجز عن امتلاك بعض الحاجيات، وهذا كله يستوجب منه صبرًا وتحملاً؛ لينال غنى النفس وعز القناعة وينهم من كنزها طمأنينته، ومهابته، وراحته.
الدعاء والتضرع إلى الله: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه» [رواه مسلم].
ففي قوله صلي الله عليه وسلم: «وقنعه الله بما آتاه» دليل على أن القناعة شعور يخلقه الله في قلوب عباده المؤمنين، ومن فقه المؤمن أن يسأل ربه هذا الخلق النفساني النفيس ويلح عليه في أن يهبه الله إياه، وأن يقنعه بما رزقه، وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأل ربه القناعة والغنى، فمن أدعيته صلي الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» [رواه مسلم].
قال الشيخ العلامة السعدي رحمه الله: «هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها وهو يتضمن سؤال خير الدنيا والآخرة؛ فالعفاف والغنى: يتضمن العفاف عن الخلق، وعدم التعلق بهم، والغنى بالله ورزقه والقناعة بما فيه، وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية، وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا والراحة القلبية وهي الحياة الطيبة. فمن رزق الهدى والتقى والعفاف والغنى نال السعادتين وحصل له كل مطلوب ونجا من كل موهوب» [القناعة/ عبد الإله بن داود ص36].
اجتناب أهل الجشع: قال صلي الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». فيوشك من طالت صحبته لأهل الجشع والحرص الشديد أن يصيبه داؤهم وتتسلل إليه أهواؤهم وأخلاقهم.
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي
وبالعكس فإن مرافقة الصالحين وأهل الذكر والزهد ولو كانوا أغنياء موسرين؛ تشجع المؤمن على التخلق بالقناعة والزهد والرضا بما قسمه الله من رزقه.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: «انظروا إلى فرعون معه هامان! انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه، انظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحبه رجاء بن حيوه فقومه وسدده».
عن المــرء لا تسأل وسل عن قرينــه فكــل قريــن بالمقــارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فترى مع الردي
الاعتبار بحال المستضعفين: فإن المؤمن ولابد مهما كان حاله ورزقه فقد وهبه الله من النعم ما لا يحصيه إلا هو، وقد يغفل المؤمن عن هذه النعم ولا يدرك قيمتها إذا ساير نفسه في التطلع للأحسن، لكنه إذا قارن حاله بمن هو أدنى منه حالاً أدرك عظم نعم الله عليه، وقد أخبر الله جل وعلا عن الإنسان فقال: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾.
 وفسر الخير: بالمال. وقال تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾؛ فالإنسان مع طبعه الداعي إلى حب المال والدنيا ينسى نعم الله عليه ولا يسأم من طلب الخير والزيادة كما أخبر بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ قال: «لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحبَّ أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» [رواه البخاري ومسلم].
ولهذا فإن من دوافع القناعة وأسباب اكتسابها النظر إلى من هو أقل حالاً كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله» [رواه البخاري].
فهذه أهم الخصال التي يكتسب بها المؤمن القناعة والرضا وبقسمة الله له في رزقه ومعيشته.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعليقات