{ رِسَالةٌ إلى طَالِبِ عِلْمٍ


{ رِسَالةٌ إلى طَالِبِ عِلْمٍ . }
الحمدُ للهِ الذي فَضّلَنا على كَثيرٍ منْ خَلْقهِ أن هيَّأ لنا أنْ نكونَ طلَّاب علمٍ ، (( قال رسول الله ( عليه الصلاة والسّلام ) : من يرد الله به خيرًا يُفقّهْهُ في الدّينِ . )) ، فهذه الخيّريةُ اصطفاءٌ يصطفي الله لها مَنْ شاءَ مِنْ عباده المؤمنين ، لله الحمدُ من قبلُ ومن بعدُ .
العلمُ يبني بيوتًا لا عمادَ لها **** والجهل يهدمُ بيتَ العزّ والشّرفِ .
وصلّى الله على خيرةِ خلْقهِ محمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبهِ وسَلَّم – الذي أخرجَ اللهُ بهِ العبادَ من الظلماتِ إلى النّور بإذنه . (( اللهُ وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلماتِ إلى النّور )) ، ورضيَ اللهُ عن الصحابة الكرامِ ورحمَ الله التابعينَ ، ومن تبعهم إلى يومِ الدّين وبعدُ :
أخي ( ........ ) :
بادئ ذي بدء أخطُّ على ورقتي هذه جملةَ اعتذارٍ لكَ إذا ما بدرَ من أخيكَ أيّ شيءٍ سبّبَ لكَ أثرهُ ألمًا ، وهذا ليعلمَ النَّاسُ مِن بَعدِنا إذا ما مَضينا لربِّنا أنَّ هناكَ طلبةَ علمٍ يعتذرونَ لبعضهم إذا أساؤوا بقصدٍ أو غير قصدٍ ، والآخرونَ يصفحونَ ويعفون ، وليكتبِ التاريخُ بخيوطٍ ذهبيّةٍ أنَّ منهج السَّلفِ العامِّ لم ينقضِ ، ولن ينقضيَ – إن شاء الله - ، فهم شربُوا من النبّعِ الصّافي ، وها نحنُ نشربُ ممّا شَربُوا ، وما اختلفَ النّاسُ إلا لمّا تعددّت المشاربُ ؛ فتكّدّرَ صفوهُم ، وتاهتْ عقولُهم ، واضطربَتْ أقوالُهُم .
كنتُ في أحدِ الأيّامِ أراجعُ مسألةً في كتاب الإيمان لشيخ الإسلامِ ابنِ تيميّة – رحمه الله – فإذ ببصري يقعُ على فوائدَ كُنتُ قد دوّنتُها على غِلافِ الكتابِ المذكور آنفًا ، ومِن هذه الفوائدِ فائدةٌ في ص 11 وهاكَ هي :
(( قال سفيانُ بنُ عيينةَ : كان العلماءُ فيما مضَى يكتبُ بعضُهُم إلى بَعضٍ بِهؤلاءِ الكَلماتِ : مَنْ أصْلحَ سَريرتَهُ أصلحَ اللهُ عَلانيّته ، ومَنْ أصلحَ مَا بينَهُ وبينَ اللهِ ، أصلحَ اللهُ مَا بَينه وبينَ النّاسِ ، ومنْ عملَ لآخرتِه كفاهُ اللهُ أمرَ دنياهُ . )) اهـ .
فوقفُ خيطُ الفكرِ عند كلمةِ سفيان – رحمه الله – وتفكَّرتُ في حالنا اليوم ، ولستُ عالمًا فضلًا أنْ أكونَ طالبَ علمٍ ، ولا زلتُ أحثُّ الخُطى لألحقَ بركابِهم ولعلّي .... فخطرَ في البالِ أن أكتبَ رسائلَ لأهل العلمِ مَنْ أعرفُ منهم ، أذكّرهُم فيها بالله ، وبحاجةِ الأمّةِ إليهم في هذا الزّمنِ العصيبِ الشديد بأسُهُ ، ممّا تمرّ بهِ مِن ويلاتٍ ونكباتٍ لتحلّ بِنَا الحسراتُ والآهات ، ولأطرقَ قلوبَهم بالسّعيِ إلى الاجتماعِ ونبذِ التفرّق فيما بينهم ، وأخبرهم بحالهِم بمرآةِ قلمي .
وها هو كاتبُ هذه الحروفِ يقتدي بمن سلَفَ ، وأكتبُ إليكَ لعلمي برجحانِ عقلكَ على أقرانكَ ، ولأنصحكَ بعض النَّصائح لعلّكَ تستفيد منها ، فإنَّه يثقلُ عليَّ أن أنصحَ الآخرين بلساني فلا أريدُ أن أرى بعينيّ فضلي على أحدٍ ، أو أثر النصيحة إن كانت في غيرِ محلّها وتأثرها على الآخر ، وحروفي كافيةٌ في نقل ما يجول في القلب . والله الموفّق .
أخي (........) الموفّق – بإذن الله - :
أكتبُ إليكَ وأنتَ ترى بعينِ رأسكَ وقلبكَ كيفَ أُمَّةُ الإسلامِ تَئنُّ ألمًا عميقًا ، وتَشتكي أهْلَها ، والحرائر في كلِّ مكانٍ يصرخنَ : وامسْـلِـمَــــاه وامسْـلِـمَــــاه : !!!!
ونحنُ لا زلنَا نقبعُ في ظلماتِ الخلافِ ، ودياجيرِ الحسدِ والبغضِ ، نراهُ واقعًا معاشًا أمامَ أعيننا ، لا يماري في ذلكَ عاقلٌ ، وعلى مسامعنا في بلدنا الذي نعيشُ عليه ، وفي كلّ بقعةٍ تجْمعُ طلبةَ علم ، فيضحكُ منّا أعداءُ الإسلامِ ويشربونَ كأسَ السّعادةِ مبتسمينَ لاهيينَ ، ويحزنُ علينا المخلصونَ – وهم قلّة قليلةٌ كما تعلم ولو كانوا كثرةً مَا حَصلَ مَا حَصلَ – فأزمتُنَا أزمةُ إخلاصٍ – رَزقَنا اللهُ وإيّاكم الإخلاص في كلّ أحوالنا : أقوالِنا وأعمالِنا . اللّهمّ استجب .
فأنصحُ نفسي أولًا أن نعلّم أنفسنا ثمّ الأجيالَ القادمةَ ( إن قدّر الله لنا ذلكَ ) أنّ الخلافَ نوعانِ : تنوّعٌ وتضادٌ ، في الأصول والفروع ، سائغٌ مقبولٌ ، وغيرُ سائغٍ مردودٌ . ونذيقَ أعداءَ الحقّ كأسَ الحنظلِ يغلي في البطونِ ، وليكن هذا همّك - وهو أحد الهموم - .
أمّا ثانيًا :
فأنتَ تشاهدُ صباح مساء ، كيفَ نقاتلُ قتال المستميتِ لأجلِ رجالٍ دَرَسْنَا على أيديهم ، ودَرَسَ بعضُنا الآخرونَ على شيوخٍ غيرِهم ، فيبدأُ الشيوخُ بالتنازعِ فيما بينهم ليتوارثَ التلاميذُ العداوةَ والشحناء – بئستْ تلك التَّرِكةُ - من شيوخهم ، ولا يُعملونَ عقولَهم في الأمرِ ، لتُحْمَلَ سيوفُ الأقلامِ والألسنِ ( سنان ولسان ) لمجاهدةِ مَن أساءَ لشيخ واحدٍ منهم ، ولو كلمةٌ لها في الحقِ وجهٌ ، وننسى جهادَنا الأكبرَ والأعظمَ ، وزهْق الأرواحِ في سبيل اللهِ ، جهادٌ في ساحاتِ الوغَى ضدّ الكفّار والصليبين فهم أعداؤنا الحقيّقيون .
فأنصحكَ أخي بتعليمِ مَن حولكَ نبذَ التعصّب المذمومِ ، وتركَ الهَوى ، فقد قال الله تعالى لنبيّه داود :
(( ولا تتّبعَ الهوى فَيضّلكَ عن سَبيلِ الله )) ، ولا يخفى عليكَ أنّ الهوى قد يُتخذُ إلهًا يعبدُ من دونِ الله ، (( أرأيتَ من اتخذَ إلهه هواه )) .
وقال رسول الله ( عليه الصّلاة والسّلام ) :
(( إنّ ممّا أخشى عليكم شهواتِ الغيّ في بطونكم ، وفروجِكُم ، ومُضِلّاتِ الهوى )) مسند أحمد .
أخي ( ........ ) :
لا أعترضُ على أنْ يحترمَ الطالبُ شيخهُ ، بل هذا واجبٌ شرعيٌّ قامت الأدلةُ على وجوبِه ، بل وأن يحبَّهُ فهو أولُّ سلسلةِ السّندِ في متنِ علمِ طالبِ العلمِ فهو أبوه في نسبِه العلميّ ، فالقصدُ إنّما هو متوجّهٌ إلى الحبّ المفرطِ والغلوّ الظاهر ، فيصبحُ حبّكَ الشيء يعمي ويصمّ ، وإنّما هو بغضٌ من التلميذِ لشيخهِ على وجه الحقيقةِ - لو تأمل ذلك الشيخُ - !!!! إذًا لنبّههُ ، وزجرهُ ، وعلمّهُ ، وقُضيَ على المرض المستشري في جسدِ العلم في هذه الزمانِ مع أمراضِه التي فيه . ولا حول ولا قوةَ إلا بالله .
أعرفُ أنّي أطلتُ عليكَ وأثقلتُ – ويعلمُ اللهُ أنّما أنصحُ نفسي بكلِّ حرفٍ أكتبهُ لكَ ، وأبتغي بذلك وجهَ ربّي ؛ لذلكَ بقيَ في القلبِ أشياء وحروفٌ تصنعُ جملاً تكتبُ لتقرأَ ، ولكن أبقيها في دفتر عقلي لأكتبها على دفتر الزيارات ، ولعلّ الله يُهيّأ لك أن تقرأها يومًا – إن شاء الله - .
قال رسول الله عليه الصلاةُ والسّلام ) : (( لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبّ لأخيهِ ما يُحبّ لنفسهِ . )) ، وقد بوّبَ الإمامُ الأشمّ البخاريُّ – أنزلَ اللهُ شآبيبَ الرحمةِ على روحه – بابًا :
من الإيمان أن يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه .
وهذه بعضُ النصائح من أخيكَ فأنا أحبّ الخيرَ لك ولكلّ مسلمٍ كما أحبّه لنفسي :
فلن أذكِّرَكَ بالإخلاصِ والمتابعة فهما رُكنا العمل ، فهذا لا ينساه طالبُ علم ولا مسلمٍ عاميّ ، ولا بالأوراد ولا بمتابعة العلم لأنها يجبُ أن لا تغيبَ عنّا أبدًا .
أمّا النّصائحُ فهي :
1 – تعالَ إلى بيتِ اللهِ قبلَ النّداء ، فمن أَدَبِ العبدِ أن يأتي سيدّه قبلَ أن يناديه( ولله المثل الأعلى ) ، وهذا منهجُ السّلف من ابن المسيّب الذي لم تفته تكبيرة الإحرام 40 سنة ، وغيره الكثير الكثير .
2 – من منهجِ السّلفِ أنّ قيامَ الليلِ عندهم كأنّه فريضةٌ سادسَةٌ فُرضَتْ عليهم ، فأدعوكَ أخي لتهرعَ إلى مسجدكَ الذي لا يراكَ فيه إلا مَن خلقكَ .
3 – هذه الأيّام أيامُ الصيّفِ ، فالليل فيها قصيرٌ ، والنّهارُ طويلٌ حارٌّ ، فإذا استطعتَ أن تصومَ الهواجرَ ولو قليلا فافعلْ .
نقلَ الذهبيُّ في ترجمةِ عامر بنِ عبد قيس الإمامِ الزاهدِ – رحم اللهُ الجميع - .
قال قتادةُ : لمّا احتضرَ عامرٌ بكى .
فقيلَ لهُ ما يبكيكَ ؟
قال : ما أبكى جزعًا من الموتِ ، ولا حرصًا على الدّنيا ، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر ، وقيام الليل . – )) اهـ
رحمهم الله من رجالٍ ، ولله درّهم جبالًا كالّذهب بل أغلى و أنفس من التبّر ، علمّوا الدنيا كيف يكونونَ عبيدًا لله ، أسأل الله أن يلحقنا بهم . آمين .
4 – المعدةُ بيتُ الداءِ ، وإذا امتلأت المعدةُ نامت الفكرةُ ، واستيقظت الشهوة ، ففي فراغها خيرٌ لكَ ولجسدكَ .
5 – الدّنيا ملعونةٌ ، ولا تقاتل أحدًا على دنيا ، لكلّ شيءٍ من اسمه نصيبٌ ، والدنيا من الدنوّ ، دعها واستغنِ عمّن فيها تكن أميرهم ، فاتركها لهم وإن أتتكَ .( والأمرُ إليكَ ) .
6 – والداكَ فإنّهما بابا الجنّة ، وفي طاعتهما طاعة الرحمن ، وكم واحد من السّلف منع من الرحلة في طلب العلم لأنّ الوالدين غيرُ راضيينِ ، تمّ الله عليهما وعلى والدتي وعلينا بالعافيةِ في الدين والدنيا . آمين .
وأختمُ رسالتي هذه لكم بما قالهُ الليث بن سعد إلى الإمام مالك في رسالته المشهورة التي نقلها ابنُ القيّم في كتابه إعلام الموقعين حيث قال الليث – رحمة الله على الجميع –
(( وأنا أحبُّ توفيقَ اللهَ إيّاك وطولَ بقائِكَ ، لِمَا أرجو للنّاس في ذلك من المنفعةِ ، ومَا أخافُ من الضيعةِ إذا ذهبَ مثلُكَ مع استئناسي بمكانكَ ، وإنْ نأت الدّار فهذه منـزلتكَ عندي ، ورأيٌ فيك فاستيقنْهُ ، ولا تَتركِ الكتاب إليَّ بخبركَ ، وحالكَ ، وحاجةٍ إنْ كانت لك أو لأحدٍ يوصَل بكَ ، فإنّي أسرُّ بذلكَ ، كتبتُ إليكَ ونَحنُ صالحونَ مُعافونَ ، والحمدُ للهِ نسألُ اللهَ أن يرزقَنا وإيّاكم شكرَ ما أولانا وتمام ما أنعمَ به علينَا والسّلام عليكَ ورحمة الله . )

تعليقات