شمولية الإسلام

الدين الإسلامي دين شرعه الله لعباده، والله أعلم بما يصلح العباد: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ([1])، وما رضيه الله لعباده لابد أن يكون خيراً محضاً وكاملاً شاملاً: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) ([2]).
يأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك، ويأمر بالصلاة والزكاة، والصوم والحج، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الرحم وإكرام الضيف والجار، ويكفل اليتيم والأرملة، ويعلمك كيف تنام وتقوم، وكيف تأكل وكيف تقضي حاجتك، يعلم العدل وينهى عن الظلم، يحل الطيبات ويحرم الخبائث وما حرمه فلضرره.
يأمر المرأة بطاعة زوجها، ويأمر الزوج بالإحسان إليها، وينهى عن العقوق للوالدين، ويأمر بتربية الأولاد، وأمر بالإحسان في كل شيء، كما ورد في الحديث: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) رواه مسلم([3]).
خذ نموذجاً لتلك الشمولية، ما ورد في حوار أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم حول دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى ما يدعو، وكان ذلك في الفترة المكية وهي فترة التوحيد، وبناء العقيدة في الأجيال، ومع هذا التركيز على هذا الأصل العظيم فقد تخلل ذلك أمور كثيرة سوف يتحدث المبعوث رحمة للعالمين عن أكثر منها في بقية عمره المكي والمدني، فقد ورد عن ابن عباس ذلك الحديث الطويل عن أبي سفيان، ومن هذا الحوار أنه قال هرقل لأبي سفيان: "بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف" والحديث رواه الشيخان ([4]).
وجاء في القرآن المكي: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) ([5])، وهذا يدل على الاهتمام بالإحسان في بداية الدعوة إلى الإسلام، وعلى ذكر عقوبة من لم يطعم المسكين وكذلك من لم يحض على ذلك: (إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) ([6]).
وجاء في سورة الإسراء ـ وهي مكية ـ: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً * إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) ([7]).
وهذا مبدأ سياق قرآني فيه من الأوامر والنواهي والوصايا ما يقيم مجتمعاً إيمانياً آمناً، ويهدم الشرك والعقوق والقتل، ويأمر بالتوكل على الله، وعدم الخوف من قلة الرزق، وينهى عن القرب من الزنا وعن أكل مال اليتيم، ويأمر بالوفاء بالعهد وبالكيل والميزان، وينهى عن القول بغير علم: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)([8])، وينهى عن المشي مع التبختر والغرور، ويختم السياق الذي بدأه بالنهي عن الشرك، بالنهي عن الشرك أيضاً: (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً)([9])، ولا تنس أنه بين أمره بالتوحيد وطاعة الوالدين وبين نهيه عن قتل الأولاد خوف الفقر والفاقة، وقال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً) ([10])، (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً * إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً)([11]).
بعد أن أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك ونهى عن عقوق الوالدين وأمر ببرهما، أعطى الأقارب والمساكين وابن السبيل حقوقهم، مع النهي عن التبذير في سياق واحد في سورة الإسراء، شاملة هذه التعاليم علاقة العبد بربه، بأبويه وبأهله وأقاربه وبقية المسلمين في المجتمع، مع هذه الشمولية للدعوة الإسلامية من البداية لا يذهب عن القارئ أن السياق بدأ بالنهي عن الشرك وختم بالنهي عنه أيضاً.. لأنها فترة التركيز على تصفية العقيدة من الشرك وبناء التوحيد في القلوب، ومع ذلك فقد ملئ السياق بالوصايا أمراً وحضراً.
أمثلة من السنة على الشمولية:
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على كل مسلم صدقة))، قال: أرأيت إن لم يجد؟ قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق))، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ((يأمر بالمعروف والخير))، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ((يمسك عن الشر فإنها صدقة)) متفق عليه ([12])، هكذا شموليته في طرق الأحكام لكل صغيرة وكبيرة، وشموليته في تعدد أبواب الخير لمن يريد الجنان حتى في الأخير يؤجر من كف شره عن الناس.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن ناساً قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) رواه مسلم ([13]).
شمولية الأجر حتى فعل المباح فيؤجر الإنسان على نيته الحسنة في زواجه وأكله، ونومه وبيعه وشرائه.
واسمع هذا الحديث عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - كيف يرد على من قال له: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال سلمان: أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وألا نستنجي باليمين وألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وألا نستنجي بالرجيع أو عظم" انظر مختصر صحيح مسلم([14]).
فتدبر قوله: "علمكم نبيكم كل شيء.."، وكيف اعترف سلمان - رضي الله عنه - بذلك وزد الأمر إيضاحاً بتلك الأمثلة التي ذكرها.
وفي حديث الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قصة خروج معاذ بن جبل إلى اليمن، وفيه أنه أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الشهادتين، ثم الصلاة والزكاة: ثم قال له: ((وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)).
والأمثلة كثيرة جداً على اهتمام هذا الدين بحق الله وحق العباد وحق الأفراد والمجتمعات وحق النساء والرجال والصغار والكبار والحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم بما لا يخطر على عقول البشر القاصرة قوانينهم والقاصرة عقولهم.
اللهم وفق المسلمين لمعرفة ذلك.
ما معنى الشمولية:
إن الشمولية تعني ما يفهمه علماء المسلمين، وفقهاء هذا الدين عبر العصور من هذا الدين الذي شرع في خلال ثلاث وعشرين سنة قد بين حق الله على العباد، وحق العباد بعضهم على بعض، وموقف المسلم من أعدائه جنب أصدقائه.
ولهذا عندما ألف علماء المسلمين - رحمهم الله - مؤلفات قسموها إلى أبواب منها في العقيدة، وكذلك في الرقائق وجعلوا منها باباً أو كتاباً خاصاً بالعبادات، وأبواباً وفصولاً خاصة بالمعاملات، وألفوا في الآداب والأخلاق كذلك، وما على المسلم إلا أن يقرأ كتاباً من هذه الكتب سواء التي هي على مذهب من المذاهب كالمجموع شرح المهذب في المذهب الشافعي، أو كالمغني في المذهب الحنبلي، أو كالمحلى في المذهب الظاهري، أو شرح الأزهار في المذهب الهادوي الزيدي، أو شرح مختصر خليل في الفقه المالكي، أو فتح القدير وشرح الهداية في المذهب الحنفي.. هذه الكتب وغيرها ألفت في المذاهب الإسلامية، وقد يذكر المؤلف مذهبه ومذهب غيره ولا يهمنا هذا الأمر وإنما نقصد هذه الكتب قد جمعت وشملت كل معاملات المسلم في حياته، ولم تترك ما يمكن التساؤل حوله حتى كيفية قضاء الحاجة.
قلت: سواء كانت الكتب على مذاهب الأئمة، أو كتب الفقه المقارن، والذي لا يمثل مذهباًَ بعينه، وإنما هو العمل بالدليل بدون تقليد كما فعل ذلك كثير من أهل الحديث عبر العصور، وهو صنيع ابن القيم في زاد المعاد والشوكاني في الدراري المضيئة وفي السيل الجرار ونيل الأوطار، ومن قبلُ ابن تيمية في عدد من مؤلفاته، ومنها الفتاوى، وإن كان في الأصل حنبلياً، ولكنه ضد التعصب المذهبي.
وهو ما يفعله الشيخ ناصر الدين الألباني في مؤلفاته، وما فعله السيد سابق في فقه السنة، وهو عين أسلوب الصنعاني في سبل السلام، وغيره من علماء المذاهب والحديث - رحمهم الله - جميعاً.
إن تبويب أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم ليدل على شمولية هذه الشريعة السمحة، حيث يرى القارئ عشرات الأبواب والكتب فيها الحديث عن كل شيء يحتاج إليه في الدنيا تفتح كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، فلا تخرج منها إلا وقد عرفت تفاصيل العبادات في أدق المسائل، وحلت أمامك كل المشاكل، ولم تترك مجالاً لقائل.
وتفتح كتاب المعاملات فتجد في كتاب البيوع ما يسد كل طريق أمام ظلم الإنسان أخاه المسلم من البعد عن الغش إلى البعد عن الربا، وتحريم بيع ما حُرِّم أكله والبعد عن الضرر.
وتفتح كتاب النكاح فتجد الترغيب في النكاح، نكاح ذات الدين، لا يخطب على خطبة أخيه، استئذان البكر والثيب في النكاح، شروط النكاح، النهي عن نكاح الشغار، نسخ زواج المتعة، النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، ما يقول عند الجماع، عدم كشف المرأة، العدل بين الزوجات، باب في مداراة النساء الوصية بهن، باب من قدم من سفر فلا يعجل بالدخول حتى تمتشط الشعثة.. الخ ما يوجد في كتاب النكاح.
ثم يأتي كتاب الطلاق، وكتاب العدة، وكتاب اللعان، وكتاب الرضاع، وكتاب النفقات.. إلخ، وفيها سد الذرائع وإزالة الظلم، وتفتح كتاب القضاء فتقرأ خطورة هذا الأمر، وشروط القاضي، والأمر بالعدل بين الجانبين حتى في الجلوس والتحري في البينات وعدالة الشهود.. إلخ ما تجده في كتب الفقه والحديث المطول منها والمختصر.. كل هذا يدل على شمولية هذا الدين، وكماله وصلاحيته لكل زمان ومكان، وسده لحاجة البشرية وإعطائه متطلباتهم بما لا تحلم به القوانين الحديثة.
بعض الناس يفهمون الشمولية قولاً وفعلاً:
الكلام على إثبات شمولية الإسلام شيء طيب، ويردده كثير من الوعاظ والخطباء والكُتَّاب، بيد أن المتأمل في الواقع المشاهد على الساحة يجد قلة ممن يخوضون غمار هذا المجتمع وهم يحملون المفهوم الشامل لهذه الشريعة السمحة علماً وقولاً وعملاً فيكونون هم القدوة إلى ما يدعون الناس إليه.. ماذا يغني عمن يقول: الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة ومصحف وسيف.. الخ، ولكنه في الواقع العملي إذا دعي إلى العلم بهذه الشريعة ليفهم شمولها.. قال: إن الوقت لا يسمح بالكلام حول التوحيد لكيلا يتفرق الناس من حولنا، ولا حاجة لدراسة علوم الحديث، ولا ينبغي معرفة الصحيح من الضعيف ولا السنة من البدعة، ولا البعد عن التعصب المذهبي، ويطرح المبررات الباردة.
أما لأن المسلمين مشغولون بالأعداء في كل مكان، أو أن جمع الكلمة ولو مع شيء من الغش أولى.. أو.. أو.. إلخ من الأعذار الجاهزة والمعدة ولكل مقام مقال.
إن الإسلام هو الذي جعل من الخليفة خطيباً في الجمع والأعياد وقائداً في مقدمة الجيوش ومتجولاً في الأسواق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومراسلاً الملوك داعياً لهم إلى الإسلام.. وجعل من الفرد المؤمن مصلحاً اجتماعياً بعد إصلاح نفسه وأسرته.. ولكن هل العلم يفرق أم يجمع؟! هل علم التوحيد وعلم الحديث يصدان عن الجهاد؟! وهل الشمولية كلام دون عمل مع جهل بضروريات هذا الدين؟! إن الواعي لهذا الدين وشموليته هو صاحب العقيدة المقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقاده وعبادته، وجهاده ومعاملاته، وأخلاقه وفي هيئة مأكله وملبسه، وفي كل ما يستطيع فعله مما لم يكن من خصائصه مما دعينا إلى الاقتداء به (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ([15]).
فنذكر أنفسنا وإخواننا الذين نراهم يتكلمون عن الشمولية، ونسمعهم يكثرون حولها أن نكون نحن على مستوى ما ندعو إليه، وأن يكون لذلك أثر واضح علينا، فكل ذلك من الشمولية.

تعليقات