الإبــــــــتـــــــــــــــــــــــلاء

الإبــــــــتـــــــــــــــــــــــلاء
بين الشيخ حفظه الله أن الابتلاء تمييز وتمحيص للناس بين الصادق والكاذب، ثم سطَّر بعض مواقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وابتلاءاتهم، مبيناً ثمار وفوائد الابتلاء، ثم ختم بذكر الدروس المستفادة من ابتلاء الله تعالى لعباده.
***************************
الابتلاء تمحيص وتمييز للناس
اللهم لك الحمد خيراً ما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، من استنصر بك نصرته، ومن تقرب إليك أحببته، ومن اعتمد عليك كفيته، ومن حاربك خذلته، ومن ضادك كشفت أستاره، وهتكت أسراره، وأظهرت عواره، وفضحت أخباره، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه المحاضرة "الابتلاء"
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
أحسب الأبرار والأخيار، والصالحون والعلماء والدعاة أن الإسلام ادعاء، وأن لا إله إلا الله كلمة تقال فقط، إذاً كان يدّعيها المدّعي، ويفتري بها المفتري، ولا يُميز بين المؤمن والمنافق، والصادق والكاذب، ولكن أبى الله إلا أن يميز بين الصنفين: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
الله الذي يقذف بالحق على باطل الشائعات والمفتريات والأطروحات، وباطل الكلمات الكاذبات؛ فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون، ومما تتكلمون، ومما تظنون، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] وقال جل اسمه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20] وقال جل اسمه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].......
************************************
الابتلاء من أسرار الدي
إن هذا الدين صعب المراس، إنه لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء، وإن من أسرار خلوده أن يستقر مع المبتلين في الأرض؛ فيظهر الله صدقهم ونصحهم ووضوحهم ويعلم الله ثباتهم، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] الناس قد جمعوا لكم بالعراقيل، والمخططات، والشائعات، فخافوهم: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
رماني الخصم بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
فعشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
****************************
*************************
يا ضعيف العزم
يقول ابن القيم رحمه الله: "يا ضعيف العزم! الطريق شاق طويل، ناح فيه نوح، وذبح يحيى، واغتيل زكريا، وطُعن عمر ، وضرج عثمان بدمائه، وقُتل علي ، وجلدت ظهور الأئمة، وحبسوا لماذا؟ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] ولكن من الحق؟ من القوي إلا الله؟
كان عليه الصلاة والسلام يبتهل في الليالي ويقول: {اللهم أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] حسبك أن يكفيك الله.
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8].. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [آل عمران:54] فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:26].
فالـزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
عز جاهه ما أقواه! وما أعظمه! وما أعز جنده! إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
************************************
**************************************
الأنبياء والابتلاء
الابتلاء تاريخ وقصة طويلة منذ أن نـزلت لا إله إلا الله في الأرض، ابتلي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كلٌ مبتلى، وتعال إلى بعض قصصهم وإلى تلك الدروس العظيمة التي نستفيدها من حياتهم عليهم الصلاة والسلام.......
ابتلاء موسى عليه السلام
أما موسى فذاق الأمرين، رسول التوحيد أنقى وأوضح من الشمس في رابعة النهار، الذي أتى إلى الطاغية فرعون في القصر يقول له لما قال: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50] ولكن على صدقه ونصحه وعصمته ماذا فعل به؟
قال أهل التفسير وأهل التاريخ: أتى قارون بكنـز عظيم -جرةً مملوءةً ذهباً- إلى امرأةٍ زانيةٍ من بني إسرائيل فقال: خذي هذه الجرة، فإذا اجتمع الناس وقام موسى فينا خطيباً، فقومي وابكي ومزقي شعرك، وأقسمي أن موسى زنا بك، واجتمع الناس وموسى يتكلم عن التوحيد والإيمان، وقارون يريد أن يمرغ دعوة التوحيد والإيمان، يريد أن يمرغ دعوة موسى عليه السلام في التراب، وأن يمرغ منهجه لئلا يثق به الناس مرة ثانية، ولئلا يصدقه الناس مرة ثانية، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالنور نوره، والرسالة رسالته، والرسول رسوله، والمنهج منهجه، فبينما موسى يتكلم، وإذا بالبكاء يرتفع من تلك المرأة تلطم وجهها؛ إنها الخطط البائسة؛ إنها الأكاذيب والتلصيقات، إنها أنواع من المسارح يقدمها بعض المغرضين الحاقدين على الإسلام وعلى علمائه ودعاته.
سكت موسى والتفت إلى المرأة، قالت: أنت فعلت الفاحشة بي، فتلعثم وبكى، ليس في الأرض إلا موسى الذي أرسله الله بالرسالة يفعل هذه الفعلة، فوقف يبكي، ولكنه صمد وعرف أنه ابتلاء؛ فرفع عصاه ووقف أمام المرأة وقال: أسألك بالذي شق البحر لي أفعلت ذلك؟ قالت: لا. ثم بينت أمرها، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] فزاد وجاهةً وقوةً، وإثباتاً لمنهجه أنه صادق.
***************************************
****************************************
ابتلاء يوسف عليه السلام
ومن يشك في يوسف! ومن نحن مع يوسف وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، نحن لا نساوي غبار أقدامهم، نحن لا نساوي الشعرات التي تتساقط من رءوسهم، نحن لا نصلح خدماً لهم.
هم أصفى الخلق، وأخلص الناس، وأبر الناس، وأوفى الناس، رموا به في السجن: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] ومكث في السجن، وعلم الله أنه صادق ومخلص.
أيزني يوسف؟ أيمكن أن يلطخ دعوته؟ أينسى ربه؟ أين رقابة الله؟
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإلـه وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولكن الصبح قريب وأتى الفرج من الله، ولا يأتي الفرج إلا منه سبحانه وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء أبداً لأن الله معه.
***************************
**********************************
ابتلاء محمد صلى الله عليه وسلم
أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فعاش مع ريبةٍ وشائعةٍ استهلكت شهراً من حياته كما يقول سيد قطب رحمه الله: "شهراً كاملاً وقف على أعصابه" ماذا حدث؟ أتى المغرضون، وخصماء الإسلام، وأذناب اليهود، فقالوا: عائشة زنت، لا والله والله لا تزني وهي الصادقة بنت الصادق، والمبرأة من فوق سبع سماوات، ولكن هكذا يُلطخ الحق، ولكن مهما قالوا فالعاقبة للمتقين: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127-128].
أتى الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم تكتحل عينه بنوم ولكن يوم يعرف المسلم أن أمامه جيلاً وتاريخاً من الأنبياء والرسل والدعاة والصالحين ابتلوا، وصبروا، وعلموا أنه لابد من هذه المرحلة مرحلة الابتلاء.
يقول الشافعي رحمه الله لـمالك : "أيبتلى العبد أم يُمكَّن" أي: هل يُمكَّن في الإمامة في الدين أم يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن حتى يبتلى" وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] الرسول عليه الصلاة السلام أصيب في أعز شيء في حياته، المال يسهل، وكل شيء يهون سواء كان البيت أو الأطفال أو الزوجة، أو المنصب أو الوظيفة، إلا العرض والدعوة والرسالة.
إن أعداء الإسلام يريدون أن يُفقدوا هذا الصوت وهذه الكلمة وهذه الرسالة ثقتها؛ فإذا فقد الإنسان ثقته، ولُطخت سمعته، وفُضحت كلمته، فمن يثق به ومن يصدقه، ومن يستمع إليه ومن يسمع كلامه، ومن يستفيد منه؟
أصيب عليه الصلاة والسلام في أعز شيء عنده وهي امرأته، قال المنافقون والمغرضون والحاقدون: امرأته زانية، ياألله وهل تزني الحصان الرزان؟ ياألله وهل تزني الصديقة بنت الصديق ؟! وتعطل عليه الصلاة والسلام، وقف ليخطب فإذا العيون تنظر إليه؛ لأن الشيطان أوحى إلى بعض الناس بالخبر، يتكلم إلى الناس، وإذا عرضه قد فضح أمام الناس، فمن يعيد عرضه؟!
بل يسهر الليل:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فانتظر عليه الصلاة والسلام أن يأتيه خبر من السماء، لعل جبريل -عليه السلام- أن ينـزل بآيات، لكن انقطع الوحي شهراً كاملاً ثم أنـزل الله تعالى هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:11-12] لكن كثيراً من الناس لم يقل هذا الكلام.
إن الشائعة إذا ظهرت في الناس من يقنع الناس، ويقول للناس: إنها خطأ، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كيف وقد قيل }.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فعاشها شهراً كاملاً، لأنه أصبر الصابرين، وأصدق الصادقين، وأخلص المخلصين، ولكن أراد الله أن يرفع منـزلته أكثر وأكثر، ويجعل منهجه باقياً، وأن يعلم تلاميذه وأتباعه وحُفاظ رسالته أن هذا هو الطريق، ففيه تقديم الرءوس، وتقديم الدماء والأموال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] وحملها عليه الصلاة والسلام، وسمعت عائشة بالخبر رضي الله عنها قالت: فما رقى لي دمع شهراً كاملاً؛ ويدخل عليها صلى الله عليه وسلم ويقول لها: يا عائشة ! إن كنت قد ألممت بذنبٍ؛ فتوبي إلى الله، وإن كنت بريئةً، فسوف يبرئك الله، فقالت لأبيها: رد، فوقف أبو بكر حائراً يبكي ماذا يقول؟! إنها معضلة أودت بسرور وبسعادة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: والله لا أجد ما أقول، ثم قالت لأمها: ردي، قالت: والله لا أدري ما أقول، فقامت هي لتقول: والله ما أجد لي كلاماً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]}.
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه؛ الصبر الجميل الذي يصلك برضوان الله، والحياة والابتلاء تمحيص ليخرج الرجال، وليعلمهم أن دعوتهم ينبغي أن تكون لله، وأن النصر من عند الله، وأنه لا يزكيهم إلا الله، وأنه لا ينبغي أن ينصرفوا بدعوتهم رياءً ولا سمعةً ولا شهرةً ولا ظهوراً، وجلس عليه الصلاة والسلام وإذا بالوحي ينزل، وإذا بالبراءة تنـزل من السماء، بَّرأها الله من فوق سبع سماوات، وكذب المنافقين والحاقدين، وكذب عملاء الخيانة واليهود، وأشياع المنافقين في كل زمن.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
*********************************
***********************************
ثمار وفوائد الابتلاء
في الابتلاء قضايا:......
من ثمار الابتلاء: معرفة حقيقة الناس ومصداقيتهم
أولها: أن الله عز وجل جعل الابتلاء سنة؛ ليعلم الصادق من الكاذب، وليعلم المؤمن من المنافق، ولو كان الأمر للرخاء والسهولة واليسر؛ لادعى كل مدعٍ أنه صادق، ولكن ليظهر الله الصادقين أهل الصلوات الخمس؛ ولا يخزيهم أبداً.
والنبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء يوم نـزل عليه الوحي، خاف لما رأى عظم الملك، فذهب إلى خديجة رضي الله عنها ترتعد فرائصه، ووجِلَ قلبه وخاف وقال: {خفت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتُقرئ الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق } أتظن أن الله يخزي أهل الصلوات الخمس؛ أهل القرآن؛ وأهل السنة ؛ وأهل التسبيحات؛ والصيام؛ وقيام الليل، والصدق مع الله؟! لا والله. إنما يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، إنما يخزي أعداءه ومحاربي دينه الذين لا يعرفون الصلاة، ولا القرآن، ولا المسجد، ولا السنة، ولا الصدق مع الله، ولا يعرفون موعود الله، ولا يقدمون دقيقة من أوقاتهم، ولا يعرفون إلاَّ الكأس والعهر، والفحش والخيانة، وانتهاك حرمات الله، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: [[صنائع المعروف تقي مصارع السوء ]] فمن فعل معروفاً وقاه الله سبحانه منازل الخاسرين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
أعلى الصفحة
من ثمار الابتلاء: تمحيص الصف الإسلامي من المنافقين
ومن دروس الابتلاء أيضاً: تمحيص الصف الإسلامي، ليعرف الله من الذي يحب أن يُوصم الأخيار بالوصمات والتهم.
إن هذا الدين مستهدف بأساليب الله أعلم بها، حينها يعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19] والله يعلم من الذي يسر بإخفاق الصالحين، إن المنافق يضحك بملء فيه يوم يمرغ الإسلام في التراب؛ حينها ينتصر الباطل ويخطب الدجال كما قال الذهبي قال: "إذا علقت الشائعة وانتشرت وصُدقت؛ حينها يخطب الدجال من على المنبر، وتتعطل المساجد، وتكذب الدعوة الصادقة، ويخرج المناوئون الحقراء الذين لا يتكلمون إلا في الظلام، وليس معنا شيء، ما معنا إلا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وابن القيم رحمه الله يتكلم عن أولياء الله، وقد ذكر كثير منهم الدكتور بكر أبو زيد في حلية طالب العلم ، فقال: "بيوتهم المساجد، وإمامهم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- اسمهم أهل السنة ، لا يريدون إلا وجه الله" دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر.
فيريد الله بهذه الابتلاءات وهذه الفتن أن يمحص الصفوف، وأن يعرف من هو الصادق الذي يغتاظ ويتلمظ ويغار على دينه ورسالته يوم تمرغ في التراب، أو الآخر: المعربد السكير الذي يضحك ويفرح ويرقص على موت الإسلام وذبحه، ولكن الإسلام -والله- لا يموت.
يقول أحد علماء الإسلام واسمه إسماعيل صبري : "الإسلام والدعاة يمرضون ولا يموتون" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
*********************************
***********************************
من ثمار الابتلاء: تكفير الخطايا والذنوب
المسألة الثالثة: من أسرار الابتلاء التي ينـزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأرض: تمحيص الخطايا والذنوب التي تعلق بالأخيار، والتي لا يسلم منها الأبرار، فيحتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتاً، فنسأله سبحانه أن نكون ممن إذا أذنب استغفر وإذا أُنعم عليه شكر، وإذا اُبتلي صبر، إن منازل الصادقين ثلاث منازل، إذا ابتلي العبد صبر، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا لـعثمان : ادخل على الرسول عليه الصلاة والسلام يبشرك بالجنة على بلوى تصيبك، قال: الله المستعان! وما هي البلوى؟ ضرج في التراب وذبح في بيته على المصحف.
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
وتقدم المغرضون في الصف وقالوا: ظالم، وطعنوه بالخنجر؛ فوقع وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وهذه سنة ماضية.
لما أدخل ابن تيمية السجن -رحم الله ابن تيمية ، ورفع الله قدر أبي العباس على ما فعل وبذل من دمعه ودمه، وعروقه وسمعته، وعلمه ووقته- أدخله السجان وأغلق عليه الباب، فقال ابن تيمية : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] يقول له أحباؤه: ماذا أصابك؟ فدمعت عيناه وقال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
الابتلاء تمحيص، قال عليه الصلاة والسلام: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس } الابتلاء غسل للقلب وللمنهج، وغسل للطريق من القاذورات التي تعلق به، إما شهرة وإما سمعة وإما رياء لا يسلم منها العبد، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن }.
********************
************************************
دروس في الابتلاء
والابتلاءات فيها دروس.......
من دروس الابتلاء: التوكل والاعتماد على الله
ومنها: أن هذا الإسلام مهما قيل: إنه انتصر، فلا زال في الطريق عقبات، ولو قالوا: صحوة عارمة، فأمام الصحوة ألف عقبة، أعداء الله كثير، يعملون الكثير من العراقيل والمخططات المعقدة التي يحار العبد أمامها، مخططات يعجز الشيطان أن يكتشفها، تأتي من كل باب ومن كل جهة، ونحن ليس لنا حيلة كما يقول ابن القيم : "العبد الصالح يفوض أمره إلى الله، ولا يعتمد على حيلته" ويقول: حالنا كما قال نوح عليه السلام: رب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [لقمر:10]
فاترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
فليس لنا حيلة ولا ذكاء ولا دهاء ولا قوة، وليس معنا إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكم كالوا عليه من التهم الباطلة عليه الصلاة السلام، فقالوا: شاعر، كذاب، ساحر، كاهن، امرأته فعلت؛ رسالته ليست صادقة؛ يأخذ أجراً على الدعوة؛ إنما يعلمه بشر؛ مفترٍ على الله؛ وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولما دخل غار حراء ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فطوقه الكفار، فقال أبو بكر : {يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدميه } أرادوا أن يدخلوا الغار؛ فأعمى الله بصائرهم وأبصارهم عن الغار.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
لم يدخلوا الغار يقول أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق، من الذي يتبسم وحوله خمسون شاباً كل شاب معه سيف يريد أن يذبحه؟ من الذي يتبسم وهو في غار صغير وحوله الكفر من كل جهة ولا حرس معه إلا حرس الله؟ لا رمح ولا سيف ولا خنجر ولا سكين ولا شيء.
والفيـافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا ونصره الله }.
الخطيب البغدادي صاحب التاريخ ابتُلي بفرية أستحي أن أقولها في هذا المجلس، ورأى في المنام قائلاً يقول: أتريد يا خطيب ! أن تصل مبلغ الإمامة بلا ابتلاء، أتريد أن تصل إلى تلك المكانة بلا ابتلاء، فعرف أنه ابتلاء من الله.
********************************
حسبنا الله ونعم الوكيل.سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

تعليقات