منازل الشهداء


الحمد لله الذي وهب الحياة للعباد، وهيأهم للعمل الصالح وزوَّدهم التقوى ليوم المعاد، -سبحانه-.. ملهم الخير وكاشف الضر ومدبر الأمر ومجرى تصاريف الحياة على ما قدَّرَ وأراد.
يا إله العالمين ويا رجاء السائلين:
يا من إليه جميع الخلق يبتهلُ *** وكل حَيٍّ على رحماه يتكلُ
يا من نئا ورأى ما في القلوب وما *** تحت الثرى وحجاب الليل منسدلُ
أنت المنادى به في كُلِّ نائبةٍ *** وأنت ملجأُ من ضلتْ به السبلُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، القائم مع كل نفسٍ ورازقها هداها ويعلم سرها ونجواها، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أفاض على الخلق من نور الوحي ما أقام الله به ميزان الوفاء للإيمان، ورعاية حرمة الأوطان في قلوب أهل القرآن فقدموا من روائع الفداء ما سجله التاريخ من شوامخ الأعلام لأمة الإسلام، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن للشهداء فضلاً لا تحتويه العبارة ولا تحدُّه الإشارة، ولهم منازلُ من النعيم الخاص الممدود من الله واهب الخيرات للمحسنين، ذلك أنهم استرخصوا أرواحهم فداءً لدينهم وثوابتهم، وقدموا لله كل شيء ولم يأخذوا من دنيا الناس شيئاً، إنهم هم المثلُ الباقية والقدواتُ الماثلة للأجيال المؤمنة وهي تخطو نحو النصر وبناء الأوطان في كل مرحلة، ولهذا فقد ربح بيع نفوسهم لمولاهم وهو أعلم بهم، أليس هو القائل - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، " قال عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه- لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- - يعني ليلة العقبةِ -: " اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: (( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنزلت الآية))، وفي هذا كرمٌ إلهيٌّ عظيمٌ، قال فيه حبر الأمة عبد الله بن عباسٍ رضي الله - تعالى -عنهما: " أرواحٌ هو خالقها وأموالٌ هو رازقها ثم بعد ذلك يشتريها منا بالجنة"؟!. ومع هذا فلا يعرف قدر النفس ويعادلها ثمنها إلا من خلقها - سبحانه-؛ لأنه أعلم بها: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، ومن باعها لغير الله فقد نالته صفقة غبنٍ وإهدارٍ، كان الأصمعي ينشد جعفر الصادق:
أُثَاِمنُ بالنفس النفيسةِ ربَّها *** وليس لها في الخلق كلهم ثمنُ
بها تُشْتَرَي الجنَّاتُ إنْ أنَا بعتُها *** بشيءٍ سواها إنَّ ذلكم غبنُ
لئنْ ذهبتْ نفسي بدُنْيَا أصبتُها *** لقدْ ذهبتْ نفسي وقد ذهبَ الثَّمنُ
أعلى المنازل والشهداء أحياءٌ عند ربهم لا يدركهم الفناء ولا العدم يتمتعون بنعيم الجنة على الدوام خالدين فيها، قال الله - تعالى -: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ.
وحياة الشهداء على معنيين:
الأول: حياة الذكر الجميل، ولسان الصدق في الحب والتذكار الدائم والشعور من الناس بالفضل والمنِّ للشهداء كونهم آثروا الناس عليهم في طلبهم للشهادة في مظانها، فالشهيد بهذا المعنى من أجود الخلق وأكثرهم فضلاً وعطاءً:
يجودُ بالنَّفسِ أّنْ ضنَّ الجبانُ بها *** والجودُ بالنَّفس أقْصَى غايةُ الجُودِ
فكانهم باقون في الدنيا بذكرهم، وثناء الناس عليهم، على حدِّ قول من قال:
يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكنه *** ويا رُبَّ ميْتٍ على أقدامه انتصبا
وأما المعنى الثاني: فقد بينه كثيرٌ من العلماء والمفسرين، حيث قالوا: بأن هذه الحياة حقيقية كاملة المعنى بياناً لقوله - تعالى -أيضاً: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (( لما أصيب إخوانكم بأُحُدٍ جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله - سبحانه-: أنا أبلغهم عنكم" – قال: - فأنزل الله: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً) إلى آخر الآيات))، وروى ابن ماجة - رحمه الله تعالى -قال: عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: " لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أُحد، لقيني رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال: (( يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ وقال يحيى في حديثه فقال: يا جابر ما لي أراك منكسراً؟ قال: قلت: يا رسول الله أستشهد أبي وترك عيالاً وديْناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى: يا رسول الله قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحاً، فقال: يا عبدي تمن عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، فقال الرب - سبحانه -: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، قال فأنزل الله - تعالى -: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون))، وقد طمأن هذا المعنى المبارك نفوس أهل الشهداء بعد استشهادهم وحزنهم على فراقهم وخصوصاً إذا أصابتهم نعمةٌ وسرورٌ تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فكان هذا القبس القرآني يمدهم بالبشرى ويقويهم على الفراق بالمصابرة واليقين.
ومن فضل الله - تعالى- عليهم أن لهم منازل من النعيم يوم القيامة حيث لا يفزعون ولا يحيق بهم خوف ولا أذى، قال الله - تعالى -: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وتفسيراً لذلك فقد جاء في حديث المقدام بن معد يكرب –رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه))، فسبحان الواهب المنان.
أنبياءٌ في مواكب الشهداء
ومن الأنبياء من أذاقه الله - تعالى- طعم الشهادة كنبي الله زكريا، نبي الله يحيي - عليهما السلام - وغيرهما كثيرٌ من أنبياء بني إسرائيل كما أخبر الله - تعالى -عن ذلك بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، وروى ابن جريرٍ - رحمه الله - من حديث أبي عبيدة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (( يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مئة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله - عز وجل -؛ يعني قوله - تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وروى ابن أبي حاتم - رحمه الله - عن ابن مسعودٍ –رضي الله عنه- قال: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبيٍّ من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره".
ومن اختصاص الله بالفضل لسيدنا محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- أنه جمَّع له بين أجر الموت وأجر الشهادة، إذ كانت أكلة المرأة الخيبرية تعاوده بالألم كل حينٍ حتى وافاه الأجل بسببها، فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: (( يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهري من ذلك السم))، ولفضل الشهادة في سبيل الله - تعالى- فقد كان يتمناها سيف الله المسلول خالد بن الوليد –رضي الله عنه-، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فها هو خالد على فراش الموت يقول: " ما من موضع شبرٍ في جسدي إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو طعنةٍ برمحٍ، وما من ليلةٍ عندي يهدي إليَّ فيها عروس أحب إليَّ من ليلةٍ شاتيةٍ أصبح فيها العدو ثم ها أنا ذا أموت على فراشي موتة البعير فلا نامت أعين الجبناء ".
وممن طلبوا الشهادة ونالوها عمير بن الحمام -رضي الله عنه- الذي يسمع النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم بدر يقول: (( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلى رجاءة أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياةٌ طويلةٌ، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل)).
ومنهم ذلك النجدي كما ورد عن عبد الله بن عمر -رضي الله - تعالى –عنهما- قال: " أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مر بخباء أعرابي وهو في أصحابه يريدون الغزو فرفع الأعرابي ناحية من الخباء فقال: من القوم؟ فقيل: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يريدون الغزو، فقال: هل من عرض الدنيا يصيبون؟ قيل له: نعم يصيبون الغنائم ثم تقسم بين المسلمين فعمد على بكرٍ له فاعتقله وسار معهم فجعل يدنو ببكره إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وجعل أصحابه يذودون بكره عنه فقال –صلى الله عليه وسلم-: (( دعوا لي النجدي فو الذي نفسي بيده إنه لمن ملوك الجنة قال: فلقوا العدو فاستشهد فأخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- فأتاه فقعد عند رأسه مستبشراً أو قال: مسروراً يضحك ثم أعرض عنه فقلنا: يا رسول الله رأيناك مستبشراً تضحك ثم أعرضت عنه؟ فقال: أما ما رأيتم من استبشاري -أو قال: سروري- فلما رأيت من كرامة روحه على الله - عز وجل - وأما إعراضي عنه: فإن زوجته من الحور العين الآن عند رأسه)).
ويأتي أحد الأصحاب في توزيع الغنائم متعللاً برجاء ما عند الله والدار الآخرة رافضاً كل عطاءٍ دنيويٍّ من غنائم الحرب، فعن شداد بن الهاد –رضي الله عنه: " أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي –صلى الله عليه وسلم- فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا؟ قالوا قسم قسمه لك النبي –صلى الله عليه وسلم- فأخذه فجاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال ما هذا؟ قال: (( قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى ههنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة قال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي –صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- أهو هو فقالوا نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي –صلى الله عليه وسلم- في جبة النبي –صلى الله عليه وسلم- " ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته عليه، اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد عليه)).
وكان من أحرِّ الرجاء عند عبد الله بن جحشٍ –رضي الله عنه- أنه يخاطب ربه بقوله: " اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول: فيك"، وعبد الله بن رواحة –رضي الله عنه- يقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً *** وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنةً بيدي حران مجهزةً *** بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
وخبيب بن عدي –رضي الله عنه- يقول وهو يجود بآخر أرماق الحياة:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وأما أنس بن النضر فقد قاتل على منتهي صبره وقدرته في أحد ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يفتقده بعد المعركة ويبعث من يبحث عنه، ويقول: (( من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فنظر، فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق، فقال له: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم –صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف)).
وفي زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يؤسر شابٌ من الصحابة الأجلاء وهو عبد الله بن حذافة السهمي وينوِّع عليه قيصر الروم من صور العذاب ما يذيب الأرواح والمهج، لدرجة أنه يأمر به أن يلقوه في إناءٍ فيه زيتٌ يغلي كالحميم وإذا به يبكي، " فيقول له: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أن كنت أتمنى أن يكون بعدد ما رأسي من شعرٍ أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله"، وكذلك كان أهل الله يرجون الشهادة من أي طريق، فها هو أحدهم يداعب جرحه بعد المعركة ويقول له: إنك جرحٌ صغير.. وقد يبارك الله في الجرح الصغير، يقصد أن يزيد ألمه في جراحه حتى يستشهد في سبيل الله.
اتساع معنى الشهادة:
وقد يظن البعض أن الشهداء هم من سقطوا في أرض القتال فقط، وفي هذا تضييقٌ لمعناها، فإن هناك من الشهداء من لم يمت في أرض القتال وقد فاز بالشهادة، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (( ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمن هم؟ يا رسول الله! قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، قال ابن مقسم: أشهد على أبيك، في هذا الحديث؛ أنه قال: والغريق شهيد، وفي رواية: قال عبيد الله بن مقسم: أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث: ومن غرق فهو شهيد، وفي رواية: زاد فيه: والغرق شهيد))، وعن سعيد بن زيدٍ –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (( من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)).
الشهادة علمها عند الله، وقد أسرف الناس في هذه الأيام حيال الشهادة والشهداء وأطلقوا لألسنتهم العنان فزينوا مصارع الكثير ممن فارقوا الحياة بأوسمة الفخر على أنهم من أهل الشهادة على اليقين، وما هكذا يكون الإنصاف في الحكم على خلق الله - تعالى-، فهو - سبحانه - أعلم بهم أليس هو القائل (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ،) فالشهداء المقيدون ( عند ربهم) لا عند الناس - هم الشهداء على اليقين، أما أمر الناس فيحكمه التوهم أو الظن ويجمله الهوى، فهذا عبدٌ قضى نحبه في أرض النزال مع اليهود وقد " أصابه سهم عائر، فمات، فقال له الناس: هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (( كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشعل عليه ناراً، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: شراك من نار، أو شراكان من نار)) وهذا مقاتلٌ من الدرجة الأولى قد حصد رؤوس الأعداء بعددٍ كثيرٌ، لكنه ليس من أهل الجنة، وليس له من الشهادة نصيبٌ، ولن ينزل منازل الشهداء أبداً، كما جاء عن سهل بن سعد الساعدي –رضي الله عنه- قال: " التقى النبي –صلى الله عليه وسلم- والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجلٌ لا يدع من المشركون شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: (( يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان، فقال: إنه من أهل النار، فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجلٌ من القوم: لأتبعنه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما ذاك؟. فأخبره، فقال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)).
ومن العجائب اللافتة أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة شهيدٌ وعالمٌ ومنفقٌ، والبلاء ناتجٌ في حالهم من نياتهم السيئة وعدم إخلاصهم، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (( إن الله - تعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله بل أردت أن يقال: فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جرئ، فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة))، فلهذا.. على المسلم أن لا يقطع لأحدٍ في أمر الشهادة بل يقول: نحسبه شهيداً والله بحاله أعلم.
وأخيراً: لا يعادل أجور الشهداء إلا أهل الطاعات المتنوعة من صلاةٍ وصدقاتٍ وقيامٍ وصيامٍ وبذل معروفٍ وجهاد في سبيل الله وتحصيل علم وإصلاحٍ بين الناس وغيرها من صور الطاعات الصالحة النافعة، فلأهل العمل الصالح الصحبة الكريمة مع الأنبياء والشهداء، قال الله - تعالى -: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)، ومما يعادل أجور الشهداء ويوزن بدمائهم يوم القيامة أحبار أقلام العلماء، قال الحسن:" يوزن مداد العلماء، ودم الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء ".
ونسأل الله - تعالى -عيش السعداء وأجور الشهداء. والحمد لله في بدءٍ وفي ختــمٍ.

تعليقات