بين الاستبشار واليأس


بين الاستبشار واليأس
الشيخ عمر الحاج مسعود
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع هداه.
إنَّ اليأس والقنوط والتَّشاؤم من الأمراض القلبيَّة الَّتي سيطرت على فئةٍ من النَّاس حتَّى صارت نفوسهم صغيرة وقلوبهم ضعيفة، وأضحوا منهزمين مُبْلِسِين، يقدِّمون الإخفاق ويشعرون بالخَيْبة، ولا يُعِدُّون للمِحَنِ عُدَّتَها ولا يلبسون للحرب لَأْمَتَهَا.
يقذفون البلاد بوابل من الشَّتائم، ويرمون العباد بجملةٍ من العظائم، يقولون: بلاد الشَّرّ، وجوه الشَّرّ، لم يبقَ شيء (ما بْقَى وَالُو)، هؤلاء يهود، اليهود خير منكم!!!... إلى غير ذلك من العبارات السَّاقطة المعبِّرة على الغضب والتَّسَخُّط، الدَّالَّة على اليأس والانهزام والإحباط.
إنَّ هؤلاء تفوتهم فُرَصُ العلم والخير والعمل، ويُصابون بالبطالة والخُمول والفشل، ويعيشون القلقَ والاضطراب وتوتُّر الأعصاب.
ويَسيء خلقُهم ويغلُظ طبعُهم ويثقُل ظلُّهم ويخيب سعيُهم ويكبَر همُّهم، قال بعضهم: «نكح العجز التَّواني فخرج منهما النَّدامة، ونكح الشُّؤم الكسل فخرج منهما الحرمان» [(أدب الدنيا والدين) (407)].
وكم يفرح الشَّيطان بهذه الفئة؛ فهي جُنْد من جنوده وسلاح من أسلحته، يستعملها في بثِّ تلك الأمراض ونشرها، وتزيينها في قلوب العباد، وتثبيطهم عن المصالح الدِّينيَّة والدُّنيويَّة وتعويقهم عن السَّعي إلى الخير والفضائل والمعالي.
وإنْ تعجبْ فعجبٌ لتسرُّب هذه الأمراض الفتَّاكة إلى قلوب بعض الدُّعاة وطلبة العلم، فرأوا أنَّ البلاء عمَّ، والمنكر طمَّ، والخَرْق اتَّسع على الرَّاقع، والواقع المرّ ليس له دافع، فاختاروا العزلة والانزواء، وفضَّلوا السُّكون والانطواء، وَوَهَنُوا وضَعُفُوا في إصلاح الواقع وتهذيبه، وابتلُوا بالبُخل بالعلم وكتمانه.
والله ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَس مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، ويقول: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، وعن ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله! ما الكبائرُ؟ قال: «الشِّرك بالله، والإياس من رَوْح الله، والقنوطُ مِنْ رَحمة الله» [البزَّار: (كشف الأستار) (106)، وحسَّنه الألباني (الصَّحيحة) (2051)].
إنَّه ينبغي لطالب العلم ومعلِّم النَّاس الخيرَ ـ كما ينبغي لكلِّ مسلم ـ أن يتغلَّب على اليأس ويطرح القنوط ويَنْفُضَ عنه الكآبة، ويجتهد في إصلاح نفسه ويسعى في إصلاح غيره، سلاحُه العلم واليقين والصَّبر والتَّوكُّل على الله ربِّ الأرض والسَّماء، وعدَّتُه التَّفاؤل والاستبشار والرَّجاء، قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 125 ـ 128]، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24 ]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
ووَجَدَ الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ مِنَ المشركين في بداية الدَّعوة المحمَّديَّة شدَّةً، فقالوا للنَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعوا لنا؟! فقال: «...وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَ مَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [البخاري (612)].
أرشدهم إلى الصَّبر والثَّبات والتَّفاؤل والاستبشار، كما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بالتَّبشير وينهى عن التَّنفير، فقال لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما ـ لمَّا بعثهما إلى اليمن: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَ» [البخاري (3038)، ومسلم (1733)].
إنَّنا في حاجة ماسَّةٍ إلى إذكاء النُّفوس وتشجيع القلوب وشحذ الهمم وبثِّ التَّفاؤل والرَّجاء، واجتثاث اليأس والقنوط؛ حتَّى ننال العلمَ النافع ونُوفَّق للعمل به ونتمكَّن من الدَّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وَفق الضَّوابط الشَّرعيَّة.
فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبشِّر أصحابه بكنز كِسرى ـ وغالبُه الأحمر وهو الذهب ـ، وكنزِ قيصر ـ وغالبه الأبيض وهو الفضة ـ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ» [مسلم (2889)].
والمقصودُ أنَّ أمَّتَه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ستفتح وتملك العراق والشَّام، وهذا تبشير عظيم، وقد وقع ذلك كما أخبر النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وإذا نظرنا إلى حالِ الأمَّة وجدنا ما يسرُّ ويبشِّرُ: من عودة النَّاس إلى دينهم وتمسُّكِّهم بسُّنَّة نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فمعالم الشَّرع ظاهرة وأنوار السُّنَّة ساطعة، وسُبُل الشَّياطين مفضوحةٌ وظلمات البدعة مكشوفة، وهذا يوجب التَّفاؤل والاستبشار والطَّمَع في نصر الله الواحد القهار: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
فعلى دعاةِ الحقِّ وحملةِ الميراث النَّبويِّ أنْ يَثْبُتُوا ويصبروا ويواصلوا الدَّرْبَ في العلم والتَّعليم والنُّصح وإنقاذ النَّاس من الجهل والشِّرك والبدعة والمعصية، والأخذ بأيديهم نحو شاطئ الأمن والنَّجاة والسَّعادة.
والخيرُ في هذه الأمَّة ـ والحمد لله ـ لا ينقطع، وعمل المصلحين لا يتوقَّف، قال النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ المَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُه» [أحمد (3/130) والتِّرمذي (2869)، وصحَّحه الألباني (الصَّحيحة) (2286)].
وقال: «لَا يَزَالُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» [أحمد (4/200)، وابن ماجه (8)، وهو حسن: (الصَّحيحة) (2442)].
وعن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» [مسلم (1920)].
نصوصٌ مبشرة، وكلماتٌ مُفْرِحة، فَلِمَ اليأس والقنوط؟!
إنَّ في التَّفاؤل تقويةً للقلوب وتنشيطًا للعزائم وتحريكًا للهِمَم، وفتحًا لباب العمل والرَّجاءِ، ودفعًا للبذل والعطاء.
والمتفائل يَقْوَى على مواجهة الصِّعاب ويصبر على مغالبة الأهوال، ويستمرُّ على ذلك ـ بإذن ربِّه ـ إلى آخر رَمَقٍ مِنْ حياته، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» [أحمد (3/191)، والبخاري في (الأدب المفرد) (479)، وسنده صحيح: (الصَّحيحة) (9)]، أمرَ بهذا مع قيام السَّاعة! فكيف قبل ذلك؟!
والمقصود مواصلة العمل الصَّالح والاجتهاد في نفع الخلق ابتغاءَ وجه الحقِّ جلَّ وعلا.
إنَّ المصلح العاقل الحازم مَنْ يوطِّنُ نفسه على تحمُّل المشاقِّ في سبيل الله تعالى، ويعمل ويجدُّ ويجتهد بصدق وإخلاص وعلم وحكمة ومتابعة، متفائلًا بنصر الله، راجيًا من ربِّه أن يُحقِّق له ما يطلبه ويرجوه من أهداف جليلة وغايات نبيلة، جاء في وصيَّته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن عبَّاس: «وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرَ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ» [صحيح: أحمد (1/307)، انظر: (الصَّحيحة) (2382)].
قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «المكارمُ مَنُوطَةٌ بالمكارِه، والسَّعادة لا يُعْبَر إليها إلَّا على جسر المشقَّة، فلا تُقطع مسافتُها إلَّا في سفينة الجدِّ والاجتهاد» [(مفتاح دار السَّعادة) (1/363 ـ ط. علي حسن)].
اللَّهمَّ اجعلنا هداةً مهتدين، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّه محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين.

تعليقات