قف وتأمل


قف وتأمل
احضر بقلبك ذكر من كان متردداً في أغراضه كيف تهدمت رجلاه في قبره . يقول الرافعي : كل من يهرب من شئٍ يتركه وراءه إلا القبر فما يهرب منه أحد إلا وجده أمامه ، هو أبداً ينتظر غير متململ ، وأنت أبداً متقدم إليه غير متراجع.
أخي في الله
تأمل : صاحبك في القبر
· كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله، فإذا به في قبره وقد سالت عيناه.
· كيف كان يصول ببلاغة نطقه ، وقد أكل الدود لسانه.
· كيف كان يضحك لمواتاة دهره ، قد أبلى التراب أسنانه.
تأمل وتذكر :
بل وتحقق وتأكد أن سيكون حالك كحاله ، ومآلك كمآله ، وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنك جميع الأغيار الدنيوية ، وتقبل على الأعمال الأخروية ، فتزهد في دنياك ، وتقبل على طاعة مولاك ، يلين قلبك ، وتخشع جوارحك ، فزيارة ذلك الواعظ من أكبر أسباب تقوية القلب ، وإزالة تلك الغشاوة .
فأنت عندما تذهب إلى المسجد يوم الجمعة تستمع إلى واعظ واحد ، فالمصلون كثيرون والواعظ واحد ، ولكن الصورة تنقلب في المقبرة حيث تتحول كل القبور إلى وعاظ ، وأنت تستمع إليهم في آن واحد ، فالمستمعون قليل والوعاظ أكثر.
وهذه حالة فريدة لا تكون في أمور الدنيا إلا في ذلك المكان ، فالقبر ما يفتأ صامتا لا يتكلم ، ولكن صوته في أعماق الناس أعلى من صوت ذلك الواعظ الجهوري الصوت في المسجد .

إخوتاه
تعالوا بنا لنزور ذلك الواعظ الصامت ، نقف عنده مليا لنتدبر حديثه الدائم ، عسانا نعتبر .
إنَّه القبر

القبر
لا يملك العبارات المنمقة المصفوفة ، ولكن منظرة أعمق من كل عبارات الوعاظ.
القبر
لا تتحرك يديه ، ولا يتلفت بوجهه ميمنة وميسرة ؛ ليجذب جمهور المستمعين والمشاهدين بخطبته ؛ لأن الجاذبية تركزت فيه تجذب القلوب قبل الأجساد.
القبر
ما هو إلا تلك الحفرة التي سينام فيها الإنسان ، عندما تتوقف الآلة التي كان يعمل من خلالها بعد أن ينتهي من أداء الاختبار الذي كان قد كلف بأدائه .
القبر
الذي تظهر فيه النتائج الأولية للاختبار بعد أن يستقر بهذه الحفرة .
يقول الرافعي :
" فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفي من مرض الحياة ، ووقفت هناك بل وقف التراب المتكلم ينقل عن التراب الصامت ، ويعرف منه أن العمر على ما يمتد محدود بلحظة ، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود ، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع ، وحتى القارات جميعها محدودة بقبر " .
فما ذلك الواعظ الصامت إلا تلك الحفرة التي تُسَمَّى القبر.
هو كما يناديه الرافعي أيضاً فيقول :

واهاً لك أيها القبر
لا تزال تقول لكل إنسان تعال ، ولا تبرح كل الطرق تفضي إليك ، فلا يقطع بأحد دونك ، ولا يرجع من طريقك راجع وعندك وحدك المساواة .
فما أنزلوا قط فيك ملكا عظامه من ذهب ، ولا بطلا عضلاته من حديد ، ولا أميرا جلده من ديباج ، ولا وزيرا وجهه من حجر ، ولا غنيا بجوفه خزانة ، ولا فقيراً علقت في أحشائه مخلاة 

واهاً لك أيها القبر
و تالله لولا قسوة القلوب والانشغال بالوسائل التي تعين على أداء الهدف الذي خلقنا من أجله لتذكر الإنسان عند ولادة كل مولود اليوم الذي يدفن فيه .
يقول ابن الجوزي : " عبر مهد الطفل عنوان اللحد " .
فكما يلف الطفل المولود بقطعة قماش بيضاء ، ويوضع في المهد بلا حراك ، فكذلك الميت أيضاً يلف بقطعة بيضاء هي آخر ثوب يلبسه بالدنيا ، ليبقى في مهد الأرض دون حراك إلى يوم البعث .
من كتاب أهوال القبور
للشيخ محمد حسين يعقوب

تعليقات