التآلي على الله

ذه الآفة، هي: التألي على الله سبحانه وتعالى، ومعنى التألي على الله عز وجل: يعني مثلاً إنسان يجلس هكذا واضعاً قدماً على قدم، ويقول: والله لا يغفر الله لفلان، والله لا يرحم الله فلاناً، والعياذ بالله رب العالمين.
يتألى على الله: يعني يخرج من حدود البشرية ليؤله نفسه فيتألى على الله عز وجل، والعياذ بالله رب العالمين. أما سمع هذا قول الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).
ما سمع هذا الإنسان حديث جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: "أن رجلاً قال: لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك" (1). هذا يتألى على الله.
ومعنى يتألى على الله، يقول: والله، فلان هذا لا يغفر له. وبالذات إذا كان بينه وبينهم ضغائن أو مكائد أو من هذا القبيل.أخٌ مثلاً استولى على الشركة التي تركها له أبوه مع أخوته، فاستولى عليها أحدهم، نعم هو ظالم لكن لا تقل أنت هذا من أهل النار، أنتَ لست يعني ممن أعطوا مفاتيح الجنة والنار حتى تعلم، ولست من الذين أعطوا علم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله ربُ العالمين. لماذا أنتَ تُدخل هذا الجنة وتُدخل هذا النار؟! كيف يعني؟! سبحان الله! كيف تزكي أنتَ نفسك وتتهم الآخرين. روي عن سعد رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام (2).
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم" (3)، لأنه لا يعلم من منا من أهل البرّ، ومن منا من أهل الشّر، ومن منا من أهل الاستقامة. لأن النهايات لا يعلمها إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(4).
يعني أنا إذا صليت وجلست في آخر ركعة لأقرأ التشهد، وقبل أن أسّلم بلحظات نقض وضوئي، ما الذي حدث في الصلاة ؟ فسدت كلها، الأعمال بخواتيمها يجب أن تعاد مرة أخرى. إذاً الأعمار أيضاً بخواتيمها، فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.
وفي حديث أبى هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين (يعني في الله) وكان أحدهما مذنباً والآخر مجتهداً في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر (يعني: لا داعي للذنب، توقف عنه)، فوجده يوماً على الذنب، فقال له: أقصر فقال: خلني وربي أبُعثت عليّ رقيباً. قال (يعني أخوه الطائع هذا): والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" (5).
قد يتعجب إنسان ويقول ربما قال هذا الكلام غيرةً على رب العباد عز وجل، غيرةً على محارم الله سبحانه وتعالى، لكن نصوب هذا القول، ونقول: لا داعي أبداً أن تقول والله لا يغفر الله لفلان؛ لأنك لا تدري متى يغفر له؟ لا تدري ماذا صنع الله به؟ لا تدري ما سوف يصنع به بعد أن يموت ويوم القيامة؟ لا تدري ما الذي يصنع به في بقية عمره؟ربما ينزع، ربما يتوب، ربما يهتدي، ربما يكثر من الحسنات، ربما يفيق من غفلته، ربما يستيقظ من غفوته، ولعل الله سبحانه وتعالى هو الحنّان المنّان الذي يعطي النوال قبل السؤال، ويتوب على العصاة وعلى المنحرفين والبعيدين إذا سلكوا طريق الله سبحانه وتعالى، فمن ذا الذي يضمن؟، نسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة.
فأنتَ، يا أخ الإسلام، لا تتألى على الله، حتى وإن أبغضت شخصاً، حتى وإن كان هذا الشخص قد سلبك شيئاً من حقك، الإسلام أباح لك أن تأخذ حقك بالطرق المشروعة، وأن تقاضيه في المحكمة، وأن تأتي بعالمٍ ليفتي بينكما، وأن تأتي بأهل الحل والعقل ليقضوا بينكما. كل هذه الأمور تستطيع أن تصنعها، لكن مجرد أنه ظلمك تتألى أنت على الله وتوزع جنةً وناراً، وتقول: هذا من أهل النار وهذا من أهل الجنة!!الجنة والنار لا يعلم داخلها إلا رب العباد سبحانه وتعالى.
فلا تتألى على الله وتقول وتوزع وكأنك معك كشف التوزيع: هذا يدخل الجنة، وذاك يدخل النار، لا المسألة ليست هكذا!كم ودّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسلم عمه أبو طالب، وقلنا مراراً إن كلباً صاحب أهل الكهف فذكر في كتاب الله ومُدح، قال تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (الكهف: من الآية18)، يعني كلب صحب الصالحين فكان معهم وذكر معهم، وأبو طالب صاحب السفلة من القوم، صاحب المنحرفيين من القوم، صاحب أبا جهل وصاحب أبا لهب وعقبة بن أبى معيط وأمية بن خلف، فيجلس الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأسه وهو ينازع يقول: "يا عماه قلها أشفع لك بها عند ربي" (6) (يعني مجرد أن يقول لا إله إلا الله) فيأخذ أبو جهل، عمرو بن هشام، رأس أبي طالب إليه ويقول: يا أبا طالب أنت كبير قريش أنت زعيم قريش أنت كبيرنا، على دين عبد المطلب، يقول له النبي: "يا عماه قلها أشفع لك بها"، يعتدل مرة أخرى وجه أبي طالب عن طريق يد أبي جهل الذي يريد أن يموت أبو طالب على دين عبد المطلب، ومات والعياذ بالله رب العالمين ليس مسلماً وإنما كافراً رغم نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم.إذاً صحبة الصالحين هذه يا أخوتاه شيءٌ مهم. قل لي من صاحبك أقل لك من أنتَ؟ والخليل أو الصديق أو الأخ في الله رقعة في الثوب فلينظر أحدكم بما يرقع ثوبه. ولذلك الإنسان سبحان الله العظيم يعني لا داعي أبداً أن يتألى على رب العباد سبحانه وتعالى، فهو لا يملك لنفسه ولا لغيره أن يعرف ما في الغد، الغد هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فما علينا إلا أن نظن خيراً بالناس، ونظن خيراً ونأمل خيراً في رحمة الله. "أنا عند ظن عبدي بي" (7) فالإنسان يحسن الظن بالله ثم يحسن الظن بالناس. وإذا رأيت من أخيك مائة أمرٍ، منها تسعة وتسعين أمر واضح الشر وأمر واحد واضح الخير، حمّل الأمر على الخير الذي هو فيه، يعني عدة وجوه في الأمر الذي يصنعه كلها تدل على قبح، تدل على شر، تدل على سوء وباب واحد من هذه الأبواب، باب واحد أمام العشرات من الأبواب من السوء، يدل على خير، خذ جانب الخير هذا "سددوا وقاربوا" (8).
ولذلك مرّ عيسى عليه السلام بكلبٍ ميت تفوح منه رائحةٌ سيئة ومنظره كريه، قال الحواريون: ما أنتن رائحة هذا الكلب وما أقبح منظره، قال عيسى عليه السلام: ولكن ما أشد بياض أسنانه (9). إذا نظر عليه السلام إلى النقطة المضيئة في المسألة، نظر إلى الشيء الجميل في المسألة، لماذا؟ لأنه وطن نفسه على الخير. فهلا وطنا نحن أنفسنا على الخير ولم نتألى على الله عز وجل، ولا نقول إن هذا من أهل الجنة وهذا من أهل النار، من الذي يضمن لك؟ أنت أدعو الله عز وجل أن يتوب عليك وعلى الناس، أن يهديك ويهدي الناس، أن يأخذ بيدك ويأخذ بأيدي الناس، أن يقيمك على الطريق أنتَ وأخوتك في الله. أما أن تقول إن هذا رجل لن يذهب إلى الجنة، هذا رجل لن يشمّ رائحة الجنة.يا أخ الإسلام، ما أعطي الغيب لأحد، ما أعطيت مفاتيح الجنة والنار لأحد، لا واسطة بين العبد وبين ربه، يقول سبحانه وتعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الانفطار:17-19).فلا يملك يوم الدين أحد شيئاً إلا رب العباد سبحانه وتعالى. نعم يفر الإنسان منا من أبيه ومن أمه ومن زوجه ومن ابنه ومن ابنته ومن أقاربه،. لكل امرئ منهم حتى الملائكة يومها والصالحون والأنبياء والرسل دعوتهم يومئذٍ، يا رب سلم يا رب سلم، إلا سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي سوف يثبته الله، ويثبت قلبه في هذا الموقف العصيب يقول: "يا رب أمتي ، يا رب أمتي" (10).
أخوة الإسلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أسماء السبعة عشر منافقاً في المدينة، الذين أُمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبداً ولا يقم على قبره. ولكن هل فضح أمرهم؟ هل أخبرهم؟ هل قال لهم إنكم من أهل النار، هل قال للناس هؤلاء هم، أبداً، ما أعلم أسماء السبعة عشر إلا لكاتم سره حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فلما تولى عمر بن الخطاب إمارة المؤمنين ذهب أول ما ذهب لحذيفة ويستحلفه بالله، يا حذيفة أستحلفك بالله هل سمّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني هل ذكر لك الرسول أن عمر بن الخطاب من ضمن السبعة عشر منافقا! يبكي حذيفة ويتعجب ويقول: إذا كان عمر الذي مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، يخاف على نفسه أن يكون منافقاً فكيف بحال حذيفة؟! فيبكي حذيفة، رضي الله عنه، ويقول: لست منهم، ولا أزكي بعدك أحداً أبداً (11).
هكذا ازدادت خشيتهم لله سبحانه وتعالى، لكننا نحن مع قليل العمل نرجو كثير الثواب. ولذلك المؤمن يزرع ويخشى الكساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، يقول عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60).
فأنت، أخ الإسلام، حاذر من أن توزع جنةً أو ناراً، لأن هذا التألي على الله، وهذا من أسوأ الآفات التي يبتلى بها عبد مؤمن.يعني يُسيء إلى هذا ويغتاب هذا وينم في حق هذا ويسفك دم هذا، ثم إذا قلت له أين النهاية يا عبد الله يقول الجنة إن شاء الله، الرحمة بإذن الله، سبحان الله! وكأنه للأسف الشديد نسي أن الله سبحانه وتعالى هو المطلع الوحيد على مآل العباد وخواتيم الأعمال. أخوة الإسلام: حقيقة الأمر أن الإنسان لا يتعدى حدوده، لا بد أن يعرف أنه بشرٌ لا يعرف ما في غد، لا يعرف كيف تكون نهايات الناس، كيف تكون نهايته هو، وليكل علم الغيب للذي يعلمه، سبحانه وتعالى.يعني كان الصحابة كلما عادوا من غزوة كان مسحة حزنٍ تظهر عليهم، فلما يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون له ما ظفرنا بخالد بن الوليد، ما قتلنا عمرو بن العاص، ما ظفرنا بعكرمة بن أبي جهل، ما ظفرنا بأبي سفيان بن حرب. فلما استبانت الأمور بعد ذلك ودخل هؤلاء جميعاً إلى الإسلام، وجاءوا الواحد تلو الأخر وهم الذين كانوا قواداً عظاماً في الإسلام نصروا دين الله ونشروا دين الله في أرجاء المعمورة. أيقن الصحابة أن الغيب لا يعلمه إلا الله وهم كانوا موقنين، لكن ازدادوا يقينا وازداد علمهم علماً، أن الذي يعرف الخواتيم إنما هو رب العباد سبحانه وتعالى.
فاللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها يا رب العالمين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

تعليقات