دقائق الليل الغالية



إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...
دقائق الليل الغالية
أبو الحسن بن محمد الفقيه
فإن الليل مدرسة الزاهدين.. وخلوة العابدين.. وشرف الصالحين.. وسلوان المؤمنين.. يجددون فيه الإيمان.. ويحيون فيه الجنان.. ويقمعون به الشيطان.. فساعاته مباركة.. ولحظاته طيبة.. ونسماته تتدفق بالرحمة والسكينة واللذة والطمأنينة. فهو دأب الصالحين.. ووقت تضرع المحتاجين.. واستغفار التائبين.. وقضاء حوائج الراغبين.
يحيــــــون ليلهم بطـــاعة ربهم بتلاوة وتضـــرع وســـؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمـــال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجـــع الأبطال
فطوبى لمن أحياه بالقيام.. وآثره على المنام.. فحاز به شرف الدنيا وحسن الختام! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» [رواه مسلم]. وعن جابررضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» [رواه مسلم].
فتعال – أخي – نطلع على فوائد القيام وفضائله..
ونتنسم من عبير السلف نسمات تحيي في النفوس همة التبتل والعبادة.. والطاعة والزهادة..
فضائل قيام الليل 
لحظات السحر.. لحظات خير وفضيلة.. ومغفرة ووسيلة.. وعبادة جليلة. ففيها تتنزل البركات.. وتتغشى العابدين الرحمات.. وتستجاب السؤالات.. ويتجاوز فيه الله سبحانه عن الزلات والخطيئات. بل وينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم ذاته، إكرامًا للسائلين.. وإيقاظًا لهمم العارفين.. وتسلية لعباده المؤمنين.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
فيا لها من لحظات ساكنة.. ويا له من جود عريض.. وكرم سخي.. وإحسان وفيّ! فأين من يستثمر تلك اللحظات في دعوة صادقة، وتوبة ناصحة ، يصلح الله له بها أمر دينه؛ فلا ينثلم، وأمر رزقه فلا ينعدم، وأمر مآله فلا يخيب أبدًا.
فيا أيها الإنسان ما أجهلك.. وما أعجلك تؤثر نوم ساعة على نيل راحة خالدة..! ويا أيها الإنسان ما أظلمك... تعصي ويعرض عليك الغفران فتأبى! وسبحانك ربي ما أرحمك وأحلمك.. تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل!
يا نائــم الليـــل كــــــم ترقد قم يا صديقي قد دنا الموعد
وخـــذ من الليـــل وأوقاته وردًا إذا مـــــا هجـــــع الرقد
من نـــام حتى ينقضي ليله متى يبلـــــغ المنزل أو يسعد
ومن أجلّ فوائد القيام:
1- خلوة السحر:
فخلوة السحر سكينة النفوس.. وطمأنينة القلوب.. تنساب فيها دموع المخلصين على خدودهم تترى.. قبل دخولهم على الله بالصلاة.. ويحصل بها هدوء الطبع.. وسمت الخلُق.. وسكون الأعضاء منسجمة في سكونها مع سبات الليل الهاديء.. وصماته الهامد..!
وإن المستيقظ من فراش المنام.. إلى رحاب القيام.. ليستيقظ يقظة ليس من نومه فقط وإنما من غفلة طالما حجبت قلبه عن الله.. وحرمته من لذة لقاه.. فهو بقومته الليلة يجلو ظلمات نهارية تخللته في يومه.. ولازمته في يقظته ونومه.. فاستيقظ يغسل قلبه.. ويذهب ذنبه.. ويستغفر ربه.. ليحيى حياة من جديد ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
وهذه الخلوة هي – والله – مدرسة الإخلاص.. فيها ينشأ وينمو.. وفيها يكبر ويزهو.. وبها يحفظ ويربو.. لأنها عبادة غائبة عن أعين الناس.. وعن مديح الناس.. فلا يقدم عليها إلا مخلص يبتغي بها وجه الله والدار الآخرة.
ولذا فإن لها حلاوة أيما حلاوة! ولذاذة أيما لذاذة!
فالخالي في الأسحار.. بالتبتل والأذكار.. والدعوات والاستغفار.. لا يشعر بغربة في نفسه ولا بوحدة في حسه.. بل هو في أنس الله يرتعي.. وفي اجتماعه به ينعم.. وبقربه يتسلى.. وبحبه يتلذذ.. وبمعيته يسعد.. وبالخضوع الصادق يتعبد.
اطلبوا لأنفسكم مثل مــــــا وجدت أنـــا
قد وجدت لي سكنا ليس في هواه عنا
إن بعدت قربني وإن قربت منـــه دنــا
ومن عظيم حب المخلص في القيام للقيام؛ أنه يشتاق لليل إذا حل النهار.. ويظل ينتظر من النهار أفوله.. ومن الليل حلوله.. لما يجده في تلك الخلوات من متعة العبادة ونشوة وسعادة.. بل إنه يستثقل في نفسه كثرة المخالطة بالناس.. ولا يحصل له الأنس ولا السكينة إلا في خلوة السحر السكينة!
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هــــواك لذيذة حبًــــا لذكرك فليلمني اللوَّم
ولا تزال تلك الخلوة تؤتي أكلها حتى تدفع المؤمن إلى العزوف عن الدنيا وأوحالها.. وترك الاشتغال بأزبالها..
فإنمــا هي جيفة مستحيلة عليهـــا كلاب همهـــن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها وإن تجتذبها نافستك كلابها
ولا تزال تلك الخلوة بالمؤمن حتى تهذب لسانه وتقوم مقاله وتزين فعاله.. وتطهر نفسه وترقق حسه.. فإذا به حيي كريم رفيق رحيم.
ولا تزال به حتى تكسوه نضارة الوجه.. وحلاوة البشر.. ومهابة القدوم.. ورفعة الشأن، فإذا به يخطو نحو الكمال. فأين ساعة غطيط وشخير.. من هذه الفوائد الذهبية.. في خلوة السحر!!
ومن فوائدها أيضًا:
1- أنها ساعة مباركة.. يُكثر الله فيها القليل.. ويُربي فيها الضئيل.. ويجزي على العبادة فيها خيرًا كثيرًا.
2- أنها تمرس العبد على الصدق مع الله.. وعلى عدم التزين للمخلوق، وتشغله بخاصة نفسه.. ومطالعة عيبه والاستغفار لذنبه..
3- أنها تعلمه الزهد في الدنيا وتميت الطمع والحرص عليها في قلبه، وتجعله مقبلاً على الله مدبرًا عن الدنيا.
4- أنها تورثه رقة القلب.. ورفق الطبع.. والتواضع والخلق..
5- أنها ترغبه في العزلة المحمودة، والأنس بالله على كل حال، فإن حلاوة أنسه بالله في خلوة الليل تدفعه إلى طلبها في النهار فيستثقل الاجتماع بالناس في غير ذكر الله تعالى.
ليس للناس موضع في فؤادي زاد فيه هواك حتى ملاهُ

تعليقات